السبت, أبريل 26, 2025
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةأخبارسوريا.. تمرد اللحظات

سوريا.. تمرد اللحظات

نضال الخضري

 من أُتيح له التجوال في سوريا يعرف صعوبة هذه الجغرافيا، وقدرتها على خلق مساحات متباينة قدمت ألواناً من التفكير الاجتماعي، فعمر سوريا السياسي أقصر من أن يُقارن بالقرون التي جعلتها وفق لوحة سوريالية لا يمكن تفسيرها بسهولة وفق الرؤية السياسية، فالمدن والقرى المتباينة تآلفت مع الاختلاف والكوارث والبقاء في ظل الصراعات السياسية، وتقاسمت شقاء عدم القدرة على بناء “مُلك عضود”، ولكنها في الوقت نفسه أتقنت “عشق الحياة” وسط حصار الأحداث.

 عندما تتمرد اللحظات في سوريا فإننا نسمع ضحكات النساء اللواتي يسخرن من عبث التسلط، ونلحظ تبلد سمات وجههن لتصبح أكثر قرباً من ملامح الأولياء والقديسين، فعندما يموت الرجال في الصراعات فإن النساء ينقذن ما تبقى من عشق الحياة، فالضحكات ليست فرحاً؛ بل سخرية من اللحظات التي تمر بقسوة أو ربما بنوع من الذعر الذي يجعل “الفقد” اعتيادياً.

 في السنوات الماضية تعلم السوريون كيف تكون الحرب جزءاً من تفاصيل الحياة، وأتقنوا التصرف في ظل حالة الإهمال التي تراهم أشباه بشر، فهم لاجئون أو ضحايا أو مهاجرون غير شرعيين أو حتى جزء من مشهد الأزمات التي لم تكتمل بعد، والسوريون أيضاً تركوا قراهم ومدنهم، وهم يؤدون اليوم عملا مشابها في منطقة الساحل، ولكنهم في الوقت نفسه ينقلون صور حياتهم بتفاصيل وجوههم التي تتبدل على إيقاع تمرد اللحظات وحالة اللايقين التي تلف مصيرهم.

 الجغرافيا السورية هي أيضاً حالة اغتراب خاصة، ففي التحول الديموغرافي هناك نقطة فاصلة بين البقاء والموت، وهناك عذابات غير منقولة تحملها تفاصيل الوجوه التي تعيش التحول، وتنتهي عندما تصبح الحياة ساحة معايشة لكل أشكال الاغتراب القادمة، فتتبدل كل صور المساكن والحدائق المألوفة وتصبح ساحة لغرباء سيتحولون مع الزمن ويصبحون جزءا من ثقافة المدن والقرى المتحركة عبر العصور، وربما على الجميع إدراك هذه القسوة التي تشكل جزءا من حركة الحياة السورية التي ترسم في النهاية مسار قاسياً لكنه جزء من هذه الأرض.

 يصعب التفكير اليوم بالمسارات السياسية القادمة؛ لأن ما يحدث على الأرض هو تمرد اللحظات المرافقة للتحولات الكبرى، وهذا الشكل ربما عاشه السوريون قبل قرون كثيرة مع ظهور الحضارات والدول وتداخلها أو صراعها، ويكفي أن نسترجع حوادث تاريخية قليلة لندرك أن “الجغرافيا الصعبة” في سوريا لا تنتج مجتمعات قاسية؛ بل “تسامحاً” وأنماط حياة تحاول رسم مساحات جديدة عند التحولات غير المألوفة، وفي النهاية ينتقل “اللايقين” من المستقبل إلى إيمان بأن الحياة ستستمر ولو على أجساد من نحب.

 الصورة السورية الصادمة نشهدها اليوم، فهي تعبر عن مسار هذه المساحات التي أصبحت قبل أقل من ثمانية عقود دولة بالمفهوم السياسي المعاصر، ولكن جغرافيتها تبقى جزءا من استيعاب التحولات والتقلبات من دون انكفاء على الذات بل تآلفا مع قسوة الحدث الذي يغير من ثقافة المجتمعات المحلية السورية.

مقالات ذات صلة