هاشتاغ-عصام التكروري
طالما كانَ إحقاقُ العدالة هو الشغلُ الشاغلُ للناس، وطالما كانَ الربطُ قائماً بينَ المؤسسة القضائية وبينَ الظلم الذي يلحقُ بالبعض نتيجةَ أحكامٍ تصدرها تلك المؤسسة التي تتنوع فيها الأقاويل بين صحيحة وخاطئة ومتهكمة على غرار مقولة الممثل الكوميدي الفرنسي كلود كولوش: “ثمةَ طريقين لا ثالثَ لهما لحصولِ المواطنِ على العدالةِ: إما من خلالِ توكيله لمحامٍ يعرفُ القانون جيدا، أو خلال توكيله لمحامٍ يعرفُ القاضي جيداً”، ولكن ثمّة حالة يكونُ فيها سلوكُ عامةِ الناس أكثر انحرافاً من أي مؤسسة قضائية نخرها الفساد، وتكونُ الأحكام التي يصدرونها بحقِ بعضهم البعض مصدرَ ظلمٍ تعجزُ عن رفعه أكثر المؤسسات القضائية نزاهةً وحرفيةً، كلّ ذلكَ يحدثُ عندما يطلقُ الناس أحكامهم بناءً على مقولة “لا دخان بلا نار”.
إذا صدقَ المثل اللاتيني القائل بأنَّ “الخطأ الشائع يصنعُ القانون” فإنَّ مقولةَ ” لا دخان بلا نار” تكون التعبير الأقوى عنه بوصفها مقولةً خاطئةً حوَّلتها سنون الاستعمالِ الطويلةِ إلى قانونٍ يلحقُ الظلم كلما تفوه بها وضيع، والمفارقة تكمنُ في أنَّ درجة الالتزام الطوعي بالقوانين الشعبوية المبنية على خطأ شائع ـ ومنها مقولة “لا دخان بلا نار” ـ تتجاوزُ بكثير درجة الالتزامين الطوعي والقهري الذي تحظى به القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية.
عملياً، مقولة “لا دخان بلا نار” ليستْ فقط مقولةٌ خاطئة وإنما معاقَبٌ عليها بموجبِ التشريعات الوضعية بوصفها ـ على الأقل ـ تُمثلُ جرائم ذم وقدح وتشهير، والأكثر خطورةً من ذلك هو أنَّ تلك المقولة تُمثل إنكاراً ل”قرينة البراءة” بوصفها مبدأ دستوري تشتملُ عليه كل دساتير العالم بتبنيها قاعدة “المُتهم بريء حتى يُدان” وهي الجوهرة الأغلى في تاجِ العدالتين الإلهية والأرضية على حد سواء بدءاً من شريعة حمورابي (1792 – 1750 قبل الميلاد).
وعلى الرغم من اختلاف الفلاسفة حولَ مفهومي الخير والشر إلا أننا نلحظُ إجماعاً بينهم حولَ اعتبار قاعدة “المُتهم بريء حتى يُدان” من بين قواعد القانون الطبيعي التي يفرضها العقل السليم ـ بوصفه رائز الفلسفة ـ والتي تساعدُ على التمييز بين الخير والشر، ويُضافُ إلى كلّ ما تقدم بحرُ الدماءِ الذي قدَّمته البشرية للحيلولة دونَ أن تُطبق العقوبات على الأبرياء، فالعدالة لا تتأذى إذا أفلتَ الجاني من العقاب، لكنها تُصاب بمقتلٍ إذا تمَّت إدانةُ بريء، ومن منّا لا يتذكرُ مقولةَ فيكتور هوغو: “إنَّ وقوفي لساعةٍ واحدةٍ في قفصِ الاتهامِ وأنا بريء ينسيني ألفَ كتابٍ قرأته عن الحريّة”.
جميعُ ما تقدم تتمُ الإطاحة به من خلال مقولة “لا دخان بلا نار” والتي تجدُ انتشاراً خُرافياً لها في المجتمع السوري، إذ بمجرد أنْ يتم توقيف شخص من قبل عناصر الشرطة ـ وقبلَ أن يصل إلى المخفر ـ يكونُ كل من رأوه قد حاكموه وأدانوه، وإنْ حدثَ وصادفوه في اليوم التالي في الشارع فإنهم ينقسمون إلى فريقين: الفريق الأول يزرعها في “لحية الشيطان” ويلوذُ بالاستغفار بانتظارِ الضحية القادمة، والفريق الثاني يستمرُ في غيّه واستكباره ويعلن أنَّ الموقوف قد “دبّر حالو مع المخفر” وبذلك يكون عرضةً للملاحقة بجريمة ثانية تُضاف إلى الأولى في حال تمّ تحريك الادعاء العام بحقه.
مقولة “لا دخان بلا نار” التي لا تنتهك قرينةَ البراءة فحسب، بل وأصبحتْ وسيلةَ انتقامٍ تطالُ أناساً جعلتهم الصدفة أو المكيدة أو الخِسّة ضحية لشبهة فعل لم يقترفوه، لكنهم دفعوا ذات الثمن الذي يدفعه مرتكبه على المستوى الاجتماعي.
ربما كانت مقولة “لا دخان بلا نار” صحيحة من الناحية الفيزيائية، لكنها خاطئة على الصعيد القانوني، ومُدانة على الصعيد الأخلاقي، ففي مجتمعنا المريض كثيرة هي النيران التي بلا دخان …
نار الغدر بلا دخان …
نار الخذلان بلا دخان …
نار التشفي بلا دخان …
ويا نار كوني بردا وسلاما في هذا البلد الحزين.