هاشتاغ-عصام التكروري
في الشامِ القديمة، في مدينةِ الياسمين، باتتْ حوادثُ النشلِ والسرقةِ التي نسمعُ عنها يومياً، والتي يكون “أبطالها” من أطفالِ الحربِ، أكثرَ من أنْ تُحصى، يكفي أنْ تكونَ ضحيةً لإحدى تلكَ الجرائمِ لتكتشفَ التنظيمَ المُرعبَ الذي تُرتكب بهِ تلك الأفعال:
1: يقعُ النشلُ أو السرقةُ، فيصرخُ الضحيةُ “حرامي” ومُشيراً للعامة أن أمسكوه.
2: بلمحِ البصر، يتمُّ تطويقُ الضحية بحزامٍ من أطفال (إناث وذكور) يمتهنونَ ظاهرياً بيعَ الوردِ أو العلكةِ أو التسول.
3: يحضرُ إلى المكانِ اثنين أو ثلاثة بالغين يكونونَ بالغالب من أصحابِ البسطات في ذاتِ المكان، ويبدأ الجميعُ بالصراخِ وافتعالِ مشكلةٍ مع الضحيةِ بهدفِ تحويلِ أنظارِ المارة عن السارق.
4: بمجرد أنْ يتمَّ تأمين فرار السارق والطفل ينبري هؤلاء إلى الاعتذارِ من الضحية على سوء الفهم الحاصل، ويقومون بإرشادهِ إلى مخفرِ الشرطة.
5: ثمة عصبةٌ من “أطفال الحمام الزاجل” مهمتها نقل ما يحدث إلى المُشغّل، ونقل أوامره “للأطفال الميدانيين”.
6: إنْ حصلَ وتمَّ القبضُ على السارقِ والطفلِ من قبل عناصر أمن أو من المارة، يحيطُ بالمكان نوع آخر من الأشخاص يتبادلون الإشارات والنظرات مع السارق قبل وصول الشرطة، وبالنتيجة يختفي الطفل من المشهد ويُصرّ السارق على أنَّه ارتكبَ فعلته منفرداُ ولم يكن معه طفل.
7: غالباً ما تكتشف في مخفر الشرطة أنَّ السارقَ من أصحاب السوابق، وأنَّ مدة توقيفه من قبل القضاء كانت بسيطة لغيابِ الادّعاء الشخصي من قبل الضحية، وسبب ذلك يعود إلى رغبة الضحية بتفادي الذهاب إلى المخفر وحضور المحكمة، أو لأنَّه كان محظوظا واسترجع مسروقاته، أو شفقةً منه على مصيرِ الطفل، أو تحت ضغط سيل من المكالمات الهاتفية المتوسلة، والتي يتلقاها من “أقارب” الفاعل بعد أن ينتشر رقم جواله ـ و”بقدرة قادر” ـ كالنارِ في الهشيم.
لا شكَّ في أنكم ستستمعون بكلِّ تلكَ الأحداث إذا شاهدتموها في “السباق الرمضاني” القادم ضمن مسلسل بعنوان ” قرن الشيطان”، وأجزمُ أنَّ المتعة التي ستفتكُ بكم لن تكون أقلّ من تلك التي التهمتكم وأنتم تشاهدون “على صفيح ساخن”، المسلسل الذي عالجّ مأساةَ “أطفال نبش القمامة” وحوَّلها إلى حدث درامي لاستدرارِ الدموع والتأوهات على “أمل المستقبل”، واستجلابِ اللعنات على روؤس مشغليهم، دونَ أن يتطرقَ إلى البُعد الجرمي لعمالة الأطفال وجزاءاتها القانونية، تاركاً لمن لا تغيّبُ العاطفةُ و”الأكشن” عقولهم (يا إلهي كم باتوا قلّة في مجتمعنا) أنْ يستنتجوا أنَّ القانون السوري والمؤسسات المعنية بالشأن الاجتماعي لا يوفرون للأطفال ـ النباشين حمايةً كافيةً تجنبهم الانغماسَ في عالمِ الجريمة، لكن في الحالة التي أتحدث عنها ـ حالة الأطفال ـ الناشلين ـ سيكون الأمرُ أكثرَ خطورةً لأنَّ هذا الطفل يكون قد رضع حليبَ الجريمةِ منذ نعومة أظافره ( يا للصحة!)، ويرتكبها مقابلَ مبلغٍ زهيدٍ يسمح له أو لأسرته بشراء بعض الحاجات اليومية، لكن مع بلوغه سن الرُشد يكونُ قد تمرَّسَ في عمله، وباتَ قادراً على التعامل مع جميع المواقف بدءاُ من الصفعات التي سيتلقاها من أيادٍ متنوعة، مروراً بالتوقيف والتعامل مع المحققين، وانتهاءاً بالزياراتِ المتقطعة لمراكز حجز الأحداث؛ هذه “المعارف” المصقولة “بالتجربة الميدانية” ستدفعُ به إلى تأسيسِ عملهِ الخاص والذي سيدرُّ عليه مالاً يليقُ بمستوى خبراته المكتسبة ليشرعَ مثلاً في تجارة الرقيق الأبيض، الخطف بهدف الحصول على فدية، وترويج المخدرات، القتل المأجور، زرع عبوات ناسفة، وقد يتحول في ساعة “فوضى فجائية” إلى بندقية مأجورة تصوّب بالاتجاه الذي يرغبُ به المُشغلون.
برأينا، الإدارة الرديئة هي انقلاب هادئ، والقائد يُعرفُ بمرؤوسيه، و”الإدارة القادرة” تُعرفُ في أزمنة الاضطرابات والشحّ أكثرَ منه في أزمنة الاستقرار والوفرة، وفعّالية الإدارة تٌقاسُ بقدرتها على النهوض بالشرائح الأكثرَ ضعفاً لا بتمكينِ الشرائح الأكثرَ قوة.
هذه الأمور كانت ـ بتقديري ـ من ضمن الروافع التي اعتمدتها قيادة الرئيس بوتين للنهوض ببلدٍ تم تفكيكه عام 1991 (من الاتحاد السوفيتي إلى الاتحاد الروسي) وتغذية الصراعات الداخلية بين مكوناتهِ بدءا من عام 1994 (حرب الشيشان الأولى والثانية)، وتمريغِ أنفه في وحل كوسوفو عام 1999، ودفعَ العوزُ بأطفالهِ للتسول والجريمة، وألصقَ بنسائهِ سمعة “البغاء الرخيص”، روسيا كادت أنْ تنهار لولا تنبُه أولي الأمر إلى أنَّ حمايةَ الأمنِ القومي الروسي يمرّ عبرَ حمايةِ الأسرة، وعليه، فقد تمَّ الاعتمادُ على “إدارة قادرة” لقيادةِ مرافقِ التعليمِ والصحةِ والخدمات الاجتماعية، وتغذيتها من خلالِ نظامٍ ضريبي يقوم على جزّ الكباش بدلَ سلخِ الحملان، فاستطاع الأب أنْ يتجاوز عجزه، ويستعيدَ هيبته عندما مكَّنته الدولة من إعادة الحليب والزبدة إلى وجبةِ أطفالهِ، فالراسخون في العقل يدركونّ أنَّ عزَّ الدولة يبدأ من عزِّ الأب.
لم يَفُتْ الوقت حتى نستعيد سوريا من أحضان الأفول: استعادة الأسرة السورية من الحضيض الاقتصادي والاجتماعي الذي وصلت إليه عبر سياسات تضعها وتنتهجها “إدارة قادرة”.
لم يَفُتْ الوقت حتى نجنبَ سوريا الوقوعَ في أحضان “أمّ الكوارث”: مجتمعٌ شبابه مشتت بين سجنٍ وقبر ومِهجَر، ومدمِن وعاجز وزعيم عصابة.
لم يَفُتْ الوقت حتى ننقذ سوريا من أحضان “القطيعة الهادئة”: أُسرٌ تربي ضحايا وأخرى تُنشئ مجرمين.
هي صرخةٌ لكل من يُربي أولاده من “المال الحرام” بالمفهومين الديني والمؤسساتي: “أنكم تربون ما سيحرق أكبادكم كمدا”.