في الساعة الثانية عشرة ليلا بتوقيت “بكين” رنّ هاتفي الخليوي، وإذ به أحد الطلاب العرب الذي اضطر للرجوع إلى بلده بعد جائجة كورونا، ولم يتمكن من العودة إلى الصين بسبب إغلاق الحدود حتى اليوم.
هاشتاغ-رأي-لجين سليمان
غيّرت إعداداتي إلى وضعيّة المسؤول بشكل سريع، “أهلا يا ابني ماذا تريد؟” طلب مني أن أساعده في تجميد تسجيله للعام القادم لأنه لا يرغب بالدراسة عبر الإنترنت. انتابني فرح، وقلت في نفسي “يا إلهي أصبحت أسهر على راحة المواطن فعلا”.
وما كان مني إلا أن أجبته “تكرم عيونك، أعطني وقتا إلى الغد لأن الساعة حاليا 12 بتوقيت الصين“، بدأ يعتذر على الاتصال في هذا الوقت المتأخر من اليوم، فأخبرته قائلة: “لا مشكلة، فأنا أسهر على راحة المواطن وهذا عملي” واستدركت ثم قلت: “على راحة الطالب”.
وبعد هذا الحماس الكبير لتقديم الخدمات، تذكّرت أحد الوزراء الجدد، والذي من شدّة حماسه للعمل، أصدر قرارا صائبا ما لبث أن ألغي لأنه لم يؤد القسم بعد. ولذلك في صباح اليوم التالي وقبل أن أقوم بأي حركة ، سألت المعنيين بالأمر فيما إذا كنت بحاجة إلى الإدلاء بقسم معين، جاءني الجواب “عندما تثبتين صدقك بالعمل، لا داعي للحلفان” شعرت باطمئنان شديد، وبدأت أستفسر عما طلبه مني الطالب، فحصلت على إجابة كافية حول ما هو مطلوب، وأخبرت الطالب عن الإجراءات، مع شعور كبير بالفخر، لأنني استطعت أن أقدّم له هذه الخدمة على بساطتها.
ولكن “يا فرحة ما كملت”، فماهي إلا ساعات، حتى فوجئت بصدور قرار يتضمّن ضرورة الحصول على فحص كورونا للتسجيل في الجامعة، للطلاب المقيمين داخل الصين، علماً أن التسجيل يبدأ بعد يوم، ولا وقت كافٍ لإجراء الفحص، مما جعل مجموعة من الطلاب العرب تثور على هذا القرار، شاركهم مجموعة من الطلاب الأوربيين، وبدأت تردني اتصالات ونداءات لأثور معهم، فمن غير المحقّ إصدار أمر مفاجئ كهذا، دون إعطاء مدة كافية.
شعرت بالحرج الشديد، ففي الوقت الذي يجب أن أقف فيه مع القيادة لأكسب الرضا، بدأت أفكر في حقّ أولئك الطلبة، والذي هو أيضاً حقي في الحصول على وقت كاف لتقديم الأوراق المطلوبة.
ومع تزايد الضغط والاتصالات، تذكّرت أنني لست مجرّد ديكور، فأنا قد انتخبتُ وحالياً يجب أن أكون مؤتمنة على مجموعة من الحقوق، ولذلك انضممت لصفوف الطلاب المحتجين، كي أضغط على الجهات العليا، ولأظهر الحق، وبالفعل جاء الرد على طلباتنا، ولكنه كان مخيّبا للآمال، عملت على ضبط نفسي مع محاولة إطلاق تصريحات متوازنة أمام “المواطنين” الطلبة.
وتذكرت على الفور مسؤولينا عندما كانوا يطلقون تصريحات ومواقف مضحكة تجمّعها الصحف في نهاية العام على سبيل الفكاهة، وعرفت أنهم يعملون بشكل غير متوازن تحت الضغط الذي يتعرضون له من الأسفل ومن الأعلى، ففي الطبقة الدنيا يوجد ما يسمّى شعب، وفي الأعلى يوجد من هو أعلى… أيا كان، وبغض النظر عن التسمية، عرفت أن أولئك المسؤولين هم مجموعة من المساكين المعرضين للضغط غير المنتظم، والذي يزداد تبعا لتعقيد الحالة، ولذلك لم أستطع إلا أن أثور للوقوف مع هذا الشعب المسكين.
فعلا استمريت بالضغط وتوجيه الانتقاد، حتى ولو لم يكن الأمر مجد، إلا أنني وقفت مع ضميري، وتمكنّت من السيطرة على هذا الضغط السفلي القادم من الطلبة، لا سيما وأنني منذ ساعات كنت قد لبيت إحدى الطلبات، فقويّت جذوري، لأقدّم نفسي للأعلى على أنني لا أقهر، لأني أنادي بالحقوق، حقوق الكادحين، لتأتي بعدها الإجابة “إذا لم تتمكنوا من التقديم في الوقت المطلوب، بإمكانكم الانتظار يومين آخرين، مع أن الأمر ليس بمشكلة حقيقية، فبإمكانكم إجراء الفحص، والنتيجة تظهر بعد أربع ساعات على الأكثر، مما يعطيكم الوقت للتسجيل في نهاية اليوم، ولكن مع هذا يمكنكم الانتظار يومين آخرين”. وبالفعل هذا ما حصل، قمت بإجراء الفحص الساعة الحادية عشر صباحا، وبعد ساعات قليلة في الظهيرة استلمت النتيجة، وباشرت إجراءات التسجيل بكل سلاسة.
لم يكن هذا التذمر الصادر عنا كعرب، إلا عبارة عن مخزون قديم، لكلّ ما عشناه في السابق في أوطاننا من منعٍ للكلمة، وشعور بأن هذه الحكومات التي تدير شؤون البلاد ماهي إلا مجرّد مؤامرة من المؤامرات المارقة على تاريخ أمتنا، ولذلك أصدرت انتقادات لاذعة خوفاً من الوقوف في صف طبقة عليا، انتقدتها كثيرا في السابق في بلدي، وبتّ أخشى أن أحسب في صفها، وأما التذمر الصادر عن الطلاب الاوروبيين فهو صادر عن مغالاة في الحرية، تلك الكذبة التي تخدع بها القارة العجوز معظم دول العالم.
في النتيجة؛إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن تستجيب القيادة، وإن كانت القيادة ترفض الاستجابة فلن تحصل إلا على شعب يتذمّر بين الفينة والأخرى، من أبسط الأمور إلى أعقدها، وبانتظار القدر أن يحكم في هذه العلاقة الجدلية، حتى الوصول إلى حالة من التوازن تسمّى استقرار وطن.