هاشتاغ _ *أيمن علوش
إذا كان الهدف من الاستعمار هو نهب خيرات البلاد فإنّ ما تظفر به دول الغرب من كفاءات مهاجرين ولاجئين هو إحدى نتائج الشكل المتقدّم من أشكال الاستعمار، فإفقار الشعوب وإشعال الحروب ليس إلّا حلقة من حلقات شكل جديد من أشكال الاستعمار لدفع الناس للهجرة نحو مجتمعات أكثر استقراراً وأماناً وازدهاراً.
لا شكّ بأنّ وصول اللاجئ من مناطق الحروب والقتل والقهر و الفقر المدقع إلى بيئة آمنة وأكثر ازدهاراً هو إنجازٌ كبيرٌ للاجئ، وحلمٌ لكثيرين من مواطني مناطق الأزمات والدول الفقيرة، ولا شك أيضاً بأن أيّ مقارنة بين حياة هؤلاء في دولهم الأمّ والدول التي انتقلوا إليها ستكون لصالح مجتمعاتهم الجديدة التي سيُقال عنها بأنّها دول الديمقراطيّة وحقوق الإنسان.
ولكن ما يجب أن نقوله أيضاً هو أنّ استقبال اللاجئين والمهاجرين في الغرب لم يكن نابعاً من شفّافيّة وإنسانيّة صافية ومطلقة، بل كان في كثير من الأحيان خاضعاً لاعتبارات تلك الدول الخاصة بما يخدم دولهم وسياساتهم وقدرتهم التأثيرية، فقبلوا الخبرات من الأكاديميين والفنيين والعمالة، كما شملت رعايتهم المدروسة المعارضات السياسية والفكرية ورجال الدين، بما يكسبهم أوراق التأثير والتدخّل في مجتمعاتنا في التوقيت المناسب وبما يخدم مصالحهم حصراً.
والوجه الآخر للمصالح الغربيّة من استقبال الأجانب واللاجئين يتمثّل في السعي للتصدّي لمشكلة الخطر الديمغرافي الذي تعاني منه معظم الدول الأوروبيّة بسبب النقص في عدد السكان أو عدم ازدياده في أحسن تقدير، ولجوئها إلى معالجة ذلك من خلال منح الإقامة والجنسية للخبرات والمؤهّلات العلميّة والفنيّة التي تحتاجها البلاد لسد الفجوة الحاصلة في مجتمعات بات معظم سكانها من كبار السن.
كان واضحاً حجم المشكلة الديمغرافيّة التي تعاني منها فرنسا عندما أصّر الرئيس الفرنسي مانويل على تمرير قانون تمديد سنّ التقاعد من 62 إلى 64 بالرغم من المعارضة الشديدة له لعدم وجود خيار آخر في يده، وكذلك تصريحات ألمانيا عن حاجتها لـحوالي 2 مليون وافد جديد خلال الفترة القادمة لسد حاجة البلاد من العمالة التي تأتي ضرورتها ليس فقط لسد احتياجات سوق العمل وإنما أيضاً لتسديد رواتب المتقاعدين من ضرائب وظائفهم، والأمر ينطبق على معظم الدول الأوروبيّة الأخرى.
لم تستطع كافّة الدول الأوروبيّة أن تكون انتقائية الى الدرجة التي تخدم مصالحها فقط، وإن كانت دول معيّنة قد نجحت في إعطاء الأولوية لمصالحها مثل الولايات المتّحدة وكندا وبريطانيا، وربّما ساعدت العقليّة الاستعماريّة لهذه الدول في أن تجد هذا الشكل الاستعماري الجديد في أجدى صورهِ وحالاته، حيث ربطت ذلك بحاجة البلاد الفعليّة للعنصر الأجنبي، فصاغت قوانينها في اللجوء والإقامة في بلدانهم بما بخدم هذا الهدف تحديداً، وإن كانت قد وضعته في الإطار الإنساني.
إن مساحة حقوق الانسان وحق اللجوء في دول أخرى، كالدول الاسكندنافية وألمانيا وهولندا، جعلها مقصدا مهما من قبل عدد كبير من اللاجئين مما خلق تحدّيات كبيرة على الدولة المضيفة، ولكن يبقى ذلك تحدٍّ مرحليّ مقارنة بمكاسب سوق العمل والمعضلة الديمغرافية في هذه الدول.
لقد عالجت هذه الدول المشكلة بأن راهنت على الجيل الثاتي أو الثالث من اللاجئين كأبعد تقدير، حيث سينشئ هذان الجيلان وفق قوانين وثقافات هذه الدول، وهذا سيأخذ هذين الجيلين بعيداً عن ثقافة أهلهم وأوطانهم الأمّ، وأهم عنصر في تنشئة هذه الأجيال سيكون في تقوية وتمكين ثقافة “الأنا” بما يجعل هذه الأجيال مندمجة في مجتمعاتها الجديدة ورافضة لثقافة أهاليها في كثير من الأحيان، وربما هذه الثقافة هي التي دفعت بهذه الاجيال إلى ثقافة نكران كل القيم المألوفة، بما فيها وجود الله، فنلاحظ أن أغلبية موطني هذه الدول لا تعترف بوجود الله.
إن فوائد الغرب من استقبال المهاجرين واللاجئين أكبر بكثير من الأعباء والمشاكل التي يسبّبها وجودهم في المجتمعات التي وفدوا إليها، فهي لا تقتصر على تغطية سوق العمل ودفع الضرائب فقط وإنّما في اختصار سنوات طويلة وتوفير نفقات ضخمة لحلّ هذه المشكلة، ونذكر على سبيل المثال أن وصول يد عاملة ما إلى السوق الأوروبية لا يحتاج إلى أكثر من فترة محددة للتأهيل وكسب اللغة للعمل، في حين أن ذلك يحتاج في مجتمعاتهم إلى نفقات هائلة، ابتداءً من مراعاة حمل الأم وولادتها وإجازات أمومتها والتكفل بنفقات التعليم والرعاية الصحّية للطفل والانتظار لما يزيد عن عقدين ليصبح جاهزاً لسوق العمل، أما في حالة اللاجئين والوافدين فتكلفة وزمن تأهيل القادم الجديد محدودة.
وإذا كانت الهجرة واللجوء مفيدان للدول الغربيّة بهذه الطريقة، فإن حجم ضررهما على أوطان المهاجرين الأم توازي تلك الفائدة، بل وتتعدّاها في جوانب أخرى مثل الأثر الاجتماعي والنفسي والثقافي، ليس فقط على المهاجرين وإنّما أيضاً على عائلاتهم وأهلهم، وإذا كان المهاجرون يرفدون عائلاتهم مادياً فإنهم يأخذون منهم ومن الوطن الكثير، فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان.
هجرة الكفاءات مَقتلْ، وإذا كانت الرغبة الاستعماريّة تقتضي ذلك فالرغبة الوطنيّة تقتضي أن نعالج أسبابها وأن نتصدى لها بكافة الأدوات، سواءً بمحاربة الفساد والبيروقراطية أو بتأصيل الانتماء والشعور بالمواطنة وتعزيز الأمل بالإجراءات الحقيقيّة وأولها بتمكين القانون والمحاسبة وليس بالتسويف و التأميل والوعود الجوفاء.
*دكتور في السياسة الدولية