حتى اللحظة هناك مشاهدون للحرب الدائرة التي يدعي “الإسرائيليون” أنها لتغيير المشهد الإقليمي، فالسياسة أبعد ما تكون عن الصورة العنيفة التي تشهدها المنطقة، والتحركات الدبلوماسية لم تكن سوى محاولات بائسة لتحقيق “صفقة”، وهي تجري من دون ثقل سياسي بعد أن انهارت أدوار الدول المعنية بالصراع الدائر، وبقيت مصر التي تملك علاقات دبلوماسية مع “إسرائيل” إحدى البوابات للتفاوض، إضافة إلى قطر التي تربطها بالقضية الفلسطينية مساحة ضيقة بوجود بعض قادة حماس فيها.
في السياسة لا يوجد وسطاء فقط بل ثقل يجبر الأطراف على رسم حساباتهم استناداً إلى تأثيرات القوى الإقليمية، ومعادلة هذا “الثقل” في شرقي المتوسط هي صفر، فباستثناء الإدانات يحارب حزب الله من دون أي غطاء استراتيجي، وقاتلت حماس طوال عام قتالاً مكشوفاً بالكامل وهذا جعلها مستباحة مع أهالي قطاع غزة كلهم، وإذا كانت الحروب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى فإن “إسرائيل” طورت هدفها السياسي؛ فنسيت الرهائن وبدأت في صياغة معادلة إقليمية كاملة.
ليس مهما اليوم تتبع الأخطاء بعد عام من الحرب، أو الحديث عن خروق أمنية للأطراف المنخرطة في حربها مع “إسرائيل“، أو حتى تحميل إيران مسؤولية ما يحدث، فهذا الجدل قائم أساسا على انهيار معادلة الصراع التي ملأتها “طهران” على المستويين العسكري والسياسي، فالدول العربية التي طرحت مبادرة سلام في بيروت في وقت كانت فيه “إسرائيل” تحاصر مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله هي التي فتحت مساحة لخرق سياسي لباقي دول الإقليم كي تدخل في الصراع خارج الإطار التقليدي لحروب الدول.
اليوم تعلن “إسرائيل” صراحة وبعد الضربة الإيرانية لها أن طائراتها جاهزة لمهام في “الشرق الأوسط”، ومن دون تحديد لساحة معركة واضحة، ما يعني في النهاية أن الدول العربية عموما لا تملك أي دور سياسي، أو حتى قدرة على بناء أمن إقليمي، وتجميع الوضع في عموم المنطقة بات مهمة “إسرائيلية” بتوكيل عربي ضمني، لأن الأدوار الإقليمية باتت محصورة بشراء الوقت لإحداث “تنمية” في مجالات مكشوفة دوليا، فعصبية ترابط الإقليم فقدت موقعها لصالح صور إعلامية عن الرفاه الموعود بعد انتهاء العداء لـ”إسرائيل”.
فيما يتعلق بالدول التي حاربت “إسرائيل” منذ عام 1948 فإنها لا تحتاج إلى سلام على طريقة المبادرة العربية التي تُطرح فقط لكسر موازين القوى، فالسلام عادة هو تبادل استقرار بين طرفين وتعامل مع الحقوق تعاملاً واقعيا، وهو في العمق أمن إقليمي بنفي التهديدات، وليس سلاما لتطبيع نموذج للسياسات الداخلية في كل بلد، فسياق الصراع مع “إسرائيل” لا يفتقر للعدالة، ولا يحتاج إلى تجربة نيات قادة العدو، فهناك توازن استراتيجي مكسور من أول حرب، وهناك أيضا حلقة مفقودة في رؤية الصراع على المستوى العام نتيجة تغييب الأدوار الإقليمية.
عندما تدخل إيران حلبة الصراع فلأننا تركنا فراغات واضحة في الأمن الإقليمي، والدور الإيراني لا يحتاج إلى تقييم كما تفعل النخب السياسية لأنه أمر واقع ومن صنيعة السياسات العربية بتعثرها المستمر، وتحميلها مسؤولية الحروب هو هروب من الاستحقاق الذي فرضته “إسرائيل” على الجميع منذ عام 1948 وحتى اليوم، فتحميلها المسؤولية هو إخفاق حقيقي لاستراتيجيات المواجهة القائمة اليوم من دون أي غطاء سياسي عربي.