هاشتاغ- كنان وقاف
قانون الجرائم الالكترونية .. وصفة لكمّ الأفواه وإسكات الأصوات الناقدة للفاسدين..
الإنترنت هو عصب العالم فعليا، كل شئ يدار من خلاله أو يصب فيه عند نهاية الأمر، من أصغر جهاز تحملة بين أصابعك إلى إطلاق قمر صناعي .
في الواقع أصبح عالم الإنترنت الافتراضي يوازي عالمنا الواقعي، يحصل فيه ما يحصل في الآخر من حسنات وسيئات، وهذا ما أوجب وجود قانون يحكم هذا العالم الوهمي كما الحقيقي تماما .
وبالفعل؛ تم سن قانون الجرائم الالكترونية في أغلب دول العالم للتغلب على جمود القوانين القديمة الموضوعة منذ عقود ماقبل شبكة الانترنت، فلا عقوبة دون جريمة، ولا وجود لتشريعات تنص على أنواع وعقوبة هذا النوع من المخالفات الالكترونية، لذلك تم وضع تشريعات تناسب العصر الرقمي الجديد لمكافحة الجرائم المرتكبة من خلال الشبكة مهما كان نوعها، بدءاً من سرقة الحسابات المالية السرية لعملاء البنوك والبورصة، إلى عمليات قرصنة ” تهكير” البيانات الشخصية لرواد مواقع التواصل، بما فيه من انتهاك الخصوصية، وليس انتهاءاً بعمليات النصب والاحتيال أو بيع وشراء الممنوعات .
في سورية أيضاً تم إصدار قانون الجرائم الالكترونية رقم 17 لعام 2012. وبالرغم من أنه في معظم مواده يطابق ماتنص عليه معظم قوانين العالم في هذا المجال ، لكن الاستخدام فعليا كان لهدف آخر تماما .
التهمة الأشهر في سورية
بداية هذا العام، وفي الأشهر الأولى منه تحديداً، شنت”الجهات المختصة” حملة اعتقالات واسعة، لم تكن هذه الحملة موجهة ضد الخارجين عن القانون والمجرمين الخطرين من تجار المخدرات أو المهربين، وبالطبع لم تكن كما يحلم غالبية الناس – وأنت أيضا عزيزي القارئ – تستهدف الفساد أو رموزه وأشخاصه، كانت حملة على ( مجرمي المعلوماتية ) ممن تجاوزوا محظورات النشر الالكتروني من الفئات المثقفة عموما وتحديداً الإعلاميين والصحفيين والناشطين على صفحات التواصل الإجتماعي.
أول المعتقلين كانت (هالة الجرف) المذيعة ومقدمة البرامج في التلفزيون السوري منذ عشرات السنوات والمعروفة ببرامجها الخدمية الناقدة، تم اعتقالها عند أحد الحواجز على مدخل دمشق بعد ملاحقتها لساعات عقب خروجها من منزلها في مدينة السلمية باتجاه العاصمة، ثم تبعها (الداعي كنان وقاف) الصحفي في جريدة الوحدة المحلية بعد استدعائي إلى دمشق إثر نشري لقضية فساد بطلها أحد المحافظين، ثم (وضاح محي الدين ) صحفي مستقل من حلب .
ليأتي الدور بعد ذلك على بعض الناشطين على صفحات التواصل الإجتماعي من الشخصيات المؤثرة في محيطها وأشهرهم (فريال جحجاح) المفتشة في الهيئة المركزية للرقاية والتفتيش و التي تعد أقوى الهيئات الرقابية في سورية، و(إيزابيل صالح) الدكتورة المحاضرة في جامعة طرطوس، وغيرهم الكثير .
ورغم شدة حملات التأييد لهؤلاء على صفحات التواصل الإجتماعي، والمطالبة بإطلاق سراحهم، إلا أن الجهات المختصة تعمدت الصمت وصم الآذان في البداية، لتضطر بعد حدة الانتقادات وارتفاع الأصوات إلى إصدار بيان بأحرف أسمائهم الأولى تقول فيه إن سبب اعتقالهم هو التواصل مع جهات خارجية ونشر أخبار كاذبة، ثم لتلصق بهم التهمة الأشهر على الإطلاق منذ تشريع قانون الجرائم الإلكترونية في سورية، ألا وهي .. “وهن نفسية الأمة” .
“وهن نفسية الأمة “.. المصطلح الفضفاض
تتميز الدساتير و القوانين بالوضوح الكبير والدقة الشديدة ما أمكن، منعاً للتلاعب والاستغلال غير الصحيح، بما يعني وجود تعريف واضح لكل عمل أو قول شاذ بنظر القانون ليسمى مخالفة أو جرماً يعاقب عليه هذاالقانون مادياً أو معنوياً أو بعقوبات أخرى كالسجن لمدة واضحة الحدين أيضاً ( الحد الأدنى والأعلى ) سواء بالسنوات أو الأشهر، وهذا ما ينتهجه القانون السوري تماماً ، فكل جريمة لها نص يعرفها ويعطي حكمها؛ وسنعطي مثالا عن ذلك لتبسيط الأمر، المادة 375 من قانون العقوبات العام التي تقول إن جريمة القدح — تعريفها : هو كل لفظة اذدراء أو سباب أو تعبير أو رسم يشفّان عن التحقير، والقدح هو اعتداء على اعتبار وكرامة وشرف الشخص . عقوبة القدح كما نصت المادة 570 من قانون العقوبات : يعاقب على القدح بأحد الناس وكذلك على التحقير بالحبس من أسبوع إلى ثلاثة أشهر .
وهنا يبدو واضحا وجود نص يعرف الجريمة بدقة ونص يحدد عقوبة هذه الجريمة بحديها ، ولكن في “جريمة” وهن نفسية الأمة لا يوجد تعريف ، فالمادة 286 تنص { يستحق العقوبة نفسها “الاعتقال المؤقت” من نقل في سورية في الأحوال عينها ” الحرب ” أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة } . طبعا من الممكن لأي متهم دحض جريمة نقل النبأ الكاذب بالأدلة والبراهين بإثبات صدق ما نقل، في المقابل أيضا يمكن للجهات المختصة إثبات كذب المتهم فيما نقله، إلى هنا يكون النص منطقيا وفي الإطار الصحيح والمفهوم ، لكن المشكلة تبدأ في الشق الثاني من النص، فهل يستطيع المتهم أولاً ثم المدعي ثانياً إثبات أو نفي الوهن ؟ حتما يستحيل ذلك، لأن المصطلح يعاني أصلاً من الإبهام الشديد والغموض التام في كلماته، فمن هي الأمة المقصودة ( الأمة السورية – العربية – الإسلامية ؟)، وهل يجوز إطلاق كلمة نفسيّة على مصطلح جمعي يضم الملايين من البشر بينما تشير الكلمة للمفرد الوحيد بدليل اشتقاقها من ( نفس )، وهذا غير وهن بما يعني الإضعاف لغةً؛ فمن الذي يستطيع الادّعاء بأن شخصاً ما يضعف من نفسية ملايين البشر؟!
كما أن العقوبة كانت صادمة بالنسبة لنا، فالاعتقال المؤقت حسب نص المادة 44 من قانون العقوبات يعني أن الحد الادنى 3 سنوات والأعلى 15 عاماً، وهذا ما يوازي عقوبة الخيانة تماماً!.
ألا يعني هذا صراحة أن صياغة المصطلح بهذا الشكل الفضفاض وتركه مطاطاً بهذا القدر مع عقوبته المبالغ فيها هو لإدخال أيا يكن تحت عباءته وزجه في السجن؟
المعتقلون: التخويف هو الهدف
تقول المذيعة هالة الجرف: “لطالما سُئلت: هل خطر ببالك في يوم أن تأتي إلى هذا المكان ( السجن)، كانت إجابتي “لا في الأحلام و لا حتى في الكوابيس”.
وتضيف: “تجربة قاسية جداً، بدءاً من لحظة الاعتقال و حتى انتهاء القضية، و لن أدخل بالتفاصيل نظراً لأثرها العميق في نفسي، بل سأكتفي بالقول إن المشكلة هي أنك أمام من يريدون تفصيل ما يشاؤون بمقاس واحد يلبسونه لمن يشيرون إلى مواضع خلل باتت معروفة للجميع”.
أما تهمة نشر أخبار كاذبة أدت إلى وهن نفسية الأمة فهنا نحتاج لأهل القانون لإعطائنا فكرة عن هذا المصطلح المطاط جداً، متسائلةً: “بالمنطق؛ فيما لو نشر أحدهم معلومات معينة وقام أحد ما بالادعاء عليه، أليس من المفروض أن تقوم الجهات المختصة أقلّه بالتحقق عن مدى صحة أو كذب هذه المعلومات قبل تقديمه للقضاء؟” . ثم “أي أمة هي المقصودة ؟.. فكثيرا ما كان تفكيرنا أنا ومن معي ينصبّ حول الأمة التي أوهناها) تحت هذا البند و لم نجد جواباً .”
المفتشة فريال جحجاح قالت من جهتها : “تجربتي مع السجن كانت مريرة جداً وقاسية، ليس بسبب السجن نفسه؛ بل بسبب ما لمسته خلال التحقيق من أن البحث لم يكن عن فاعل لجريمة؛ بل هو البحث عن جريمة لشخصي، بدليل أنه لم تتم مواجهتي بالأنباء الكاذبة التي نقلتها حسب الاتهام، وحتى في التهم الأخرى الموجهة إليّ ( الذم و القدح ) لموظف يمارس السلطة العامة؛ لاشيء محدد، أنت متهم بالعموم، حتى أصبحت على يقين أن جريمتي هي”أنا” ، والسؤال الذي كنت و مازلت أسأله: كيف سنكون أحياء من دون أن نكون متهمين؟ فالاموات وحدهم لايتأثرون و لايفكرون! وأقصد بكلامي هذا : كيف نمارس حقنا المصان بالدستور في التعبير والرأي بإداء الجهات الحكومية التي تؤثر على وجودنا وحياتنا دون أن نكون متهمين بجرم وهن نفسية الأمة مع تحقير وذم وقدح السلطات العامة؟” .
السيد ( ع ) فضل عدم الكشف عن اسمه أو تفاصيل تشير إلى عمله أو مكان إقامته أو أي شئ يدل عليه، والسبب هو خوفه من بعض الجهات التي استمرت بعد خروجه من السجن بموجب العفو الرئاسي الأخير في مضايقته مع تحذيرات وصلت حد التلويح بإعادته إلى السجن لو استمر في نشاطه “الفيسبوكي” الناقد لعمل بعض المدراء والجهات العامة، وهو من المعتقلين الذين وجهت لهم ذات التهمة مضافا إليها التواصل مع شخص يدير إحدى صفحات الفضائح المشهورة التي تنشر من خارج سورية، وحسب قوله فإنه بقي موقوفا لمدة خمس أشهر لم يرَ القاضي خلالها إلا مرة واحدة .
“نفسيتي موهونة”.. سخرية العامة .. أم خوفها ؟
في “السرفيس” أو في أحاديث القهاوي، وسواء من عامة الناس أم من مثقفيهم، قد تسمع كلمات وعبارات من قبيل “أوعك توهنلي نفسيتي” لا بل إن الجملة الأشهر والأكثر انتشاراً في هذا العام حين يبادر أحد بسؤال الآخرعن حاله فيجيبه بسخرية “نفسيتي موهونة “، ومهما كان الحديث الذي ستبدأه مع أحدهم فإنه بطريقة ما سينساق نحو الأوضاع الإقتصادية الكارثية للمواطن وسينتهي بالجملة الأشهر ” خلينا ساكتين ، أحسن ما نوهن نفسية الأمة ” والإشارة هنا إلى الخوف من التبعات القضائية اي قانون الجريمة الالكترونية لذلك، فالتهمة آنفة الذكر لاقت رواجاً شعبياً هائلاً لتصبح المادة الأولى للسخرية بين كافة أطياف المجتمع وبشتى الألفاظ والطرق .
ورغم أن حديث الفساد والحاجة إلى الإصلاح هو الحديث الأوحد بين صفوف الناس عامةً لاقترانه بمعاناتهم الاقتصادية، لكن هذه التهمة تفوقت عليه بأشواط، ثم ارتبطت فيه لاحقاً ليصبحا متلازمين بالضرورة، وبالرغم من أن تداولها يبدو في ظاهره من قبيل النادرة أو النكتة، ولكنه في حقيقة الأمر نوع من السخط الشديد الذي يغلفه المجتمع بهذه الطريقة متناسيا آلامه، فدردشة قصيرة مع أي شخص مهما كان موقعه الاجتماعي بدءا من الطبيب وانتهاءا ببائع “البسطة” ستكتشف وبسهولة حنقه الشديد من تردي الأوضاع مرة، ومليون مرة من تهمة يعتبرها مجرد كم للأفواه ولا تلاحق إلا الشرفاء أو من يرفع الصوت تجاه خطأ ما ، لتصبح معاناة الصمت في نفسه أقسى من أي معاناة أخرى .
سلاح بيد المسؤول
لا تدّخر الجهات المختصة المكلفة بقضايا الجريمة الالكترونية جهداً في إثبات وجودها، ومن الواضح جلياً أنها تحرص شديد الحرص على تذكير الناس بصلاحياتها الكبيرة مع إطلاق المزيد من التحذيرات، فإبداعاتها القانونية تغزو صفحات التواصل الاجتماعي كل عدة أشهر، وآخرها كان موضوع الرموز التعبيرية ” الإيموجي” التي قد تتحول إلى جريمة تامة الأركان يمكن تأويلها لتصل حد التهديد بالقتل فيما لو أرسلت رمز (مسدس – سكين – قنبلة ) أو تحرشاً جنسياً فينا لو أرسل شاب رمز “قبلة” لفتاة ما .
لكن الخطير في الأمر أكثر هو أن هذا القانون أصبح السلاح المفضل لدى بعض المسؤولين لمجرد إشارة بسيطة إلى مخالفة تمت الكتابة عنها من قبل صحفي أو شخص عادي في الإدارات أو المؤسسات الحكومية، وكثيراً ما تضج صفحات التواصل بقضايا من هذا النوع، وآخرها سجن أحد الصحفيين ليومين بعد عرضه لوثائق تدين أحد المتنفذين الذي استولى على أملاك الدولة في حمص، و استدعي آخر لمجرد انتقاد بسيط كتبه على صفحته بخصوص أداء مجلس مدينة حلب، كما تم اعتقال أحد الصحفيين العاملين في التلفزيون السوري منذ أشهر، وآخرون تمت ملاحقتهم ومحاكمتهم لمرات متتالية بذريعة قانون الجريمة الالكترونية رغم تقديمهم لوثائق رسمية تثبت صحة قضايا فساد كتبوا عنها، و بالإمكان أيضا سرد لائحة طويلة عن ناشطين أمثال “يونس سليمان” سجنوا لمرات متتالية في غضون سنة واحدة لمنشورات فيسبوكية لم تتعدَ انتقاد الوضع المعيشي بشكل عام دون ذكر أو تسمية أشخاص بعينهم .
باختصار شديد ، فإن قانون الجريمة الالكترونية في سورية، بكل مواده وتشريعاته تم اختصاره بتهمة وحيدة ولهدف وحيد أيضاً؛ كم الأفواه وإسكات أي صوت ناقد تجاه أي مسؤول مهما بلغ فساده، ومن يفعل؛ يتم زجه في السجن لأنه … “يوهن نفسية الأمة “.