هاشتاغ- باسم المحمد
يمتلك “سامر” بقالية في إحدى أحياء المخالفات تحقق له دخلا مجزياً مقارنة بدخل أي موظف حكومي، وهو حالياً يبحث عن “واسطة” تمكنه من النجاح في المسابقة المركزية التي أعلنت عنها الجهات الحكومية مؤخراً، مبدياً استعداده لدفع مليون ليرة لمن يحقق له حلمه بوظيفة في وزارة العدل.
لهفة سامر للفوز بفرصة عمل في قطاع حكومي تبدو مستغربة في ظل الوضع الحالي للوظيفة العام، فالجميع يعلم حال موظفي الدولة ومستوى دخولهم التي تكاد لا تكفيهم حتى نهاية الأسبوع الأول من تاريخ استلام الراتب.
لكن لسامر رأي آخر، فيقول: “أنا لا أبحث عن الراتب بل عن “البراني” الذي سيغنيني عن إيرادات بقاليتي ويحقق لي دخلاً أعلى، من خلال التواسط في أروقة المحاكم مقابل مبالغ مالية كبيرة كما يفعل صديقي سام”!!
تهافت على “البراني”
يتهافت الكثير من السوريين نحو الوظائف العامة، ليس حباً في العمل أو الخدمة العامة، بل من أجل الحصول على مبالغ مالية كبيرة مقابل قيامهم بواجباتهم الوظيفية.
“هاشتاغ” سأل العديد من الأشخاص عما يحققه كل منهم في قطاع عمله فكانت معظم الإجابات تندرج في إطار “الحسد”، ذلك أن كل منهم كان يحسد موظفاً آخر في قطاع آخر يحقق “براني” أكثر منه، ما دفعنا للتساؤل والبحث عن ترتيب موظفي الجهات العامة بحسب ما يحققونه من دخول غير مشروعة بسبب استغلالهم لمناصبهم الوظيفية.
الجمارك.. “سوقها داقر”
في البداية توقعنا أن يكون العاملون في قطاع الجمارك في المرتبة الأولى، ليؤكد “سمير” أحد العاملين في هذا القطاع، أن هذا الأمر ليس دقيقاً في الوقت الراهن، لا سيما بعد الإجراءات التي اتخذت مؤخراً والتي حدّت من مداخيلهم لصالح جهات أخرى، لتقتصر الفائدة اليوم في مجال عملهم كما يقول على إدخال بعض المواد تهريباً كالمحروقات في أوقات الأزمات, والدخان والأدوية المفقودة وبعض الأجهزة الكهربائية أو الالكترونية، مشيراً إلى وجود مخاطر كبيرة مع اعتماد دوريات “مشتركة” لا يمكن التفاهم معها، ومتمنياً لو أنه يعمل حالياً في أماكن أخرى أكثر فائدة مثل دوائر المالية أو المصالح العقارية.
تعقيب المعاملات
ويبرر عامر للموظفين قبولهم بهذه المبالغ “لأن رواتبهم قليلة مقارنةً باحتياجاتهم وبالتالي فهم مضطرون للإفادة والاستفادة” حسب رأيه، مستنكراً في الوقت نفسه ما يأخذه “المخاتير” في معظم مدننا الرئيسية من مبالغ تعتبر كبيرة في المعاملات العقارية مقابل ختمها، حيث كلفة معاملة واحدة تصل إلى 25 ألف ليرة لنقل ملكية عدادي المياه والكهرباء لمنزل واحد، وقيمة الطوابع المطلوبة “من قبل المختار لوحده” في مثل هذه الحالة لا تتعدى 2500 ليرة، في حين معاملات بيع المنازل أو تأجيرها يتطلب أضعاف هذا المبلغ .
فساد “صغير”
أفرزت الأزمات المتتالية التي نعيشها بيئة خصبة لمكامن فساد “صغير” لم تكن شائعة سابقاً، وذلك تبعاً لمدى حاجة المواطن لخدمات هذه المكامن، فمثلاً عمال طورائ الكهرباء وبسبب الطلب الكبير عليهم باتوا يفاضلون بين الأشخاص المستعدين لدفع مبالغ معينة لقاء خدماتهم، وبين الأشخاص الذين يعتبرون أن قيامهم بإصلاح أعطال الشبكة واجباً وظيفياً لا يستحقون عليه أي مقابل.
كذلك الأمر في أي أماكن تشهد ازدحاماً شديداً مثل “الهجرة والجوازات” والأفران ومراكز “تكامل” وحتى المشافي العامة وصالات السورية للتجارة، هذا إضافة إلى مفتشي التموين والصحة.
كما وصل الأمر إلى المعلمين في موسم امتحانات الشهادتين، حيث تروي لنا المعلمة نسرين أن الأهالي عند معرفتهم بتوزيع المعلمين على المراكز الامتحانية يتواصلون مع مراقبي المركز ومستخدميه ليساعدوا أبنائهم في “النقل” وإدخال “الروشيتات” مقابل مبالغ مالية كبيرة.
أنواع الفساد
وفي تعليقه على هذا الموضوع، قسم الخبير الإداري “محمد كوسا” الفساد في بلدنا إلى نوعين: الأول الفساد الثانوي أو الصغير وتكون تأثيراته صغيرة وغير واضحة إجمالاً ، لأن مبالغه قليلة ويتعلق بأشخاص لا يمتلكون تأثيراً قوياً في مواقع الدولة، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن تأثيراته يمكن أن تتفاقم لتسبب مشكلات كبيرة.
أما النوع الثاني؛ وهو الفساد الكبير، والذي يؤثر سلباً وبشكل طويل الأجل، لأنه حسبما يقول كوسا، ينطوي على مبالغ هائلة، ويقوم به مسؤولون ذوي مكانة عالية في الدولة، كاختلاس الأموال الهادفة إلى إنشاء مشاريع تخدم عامة الناس أو قبض مبالغ كبيرة لسن قوانين لمصلحة شخص معين أو مجموعة من الأشخاص، وتعيين أشخاص غير مؤهلين، والتغاضي عن سوء تنفيذ المشاريع وغيرها الكثير..
منافذ.. ومنظومة
وعن أسباب إنتشار الفساد بأنواعه بين أغلب الموظفين بيّن كوسا أنه مع تقدم الزمن وتطور مجتمعنا وتوسع الدور الحكومي زادت أعداد المؤسسات وتنوعت اللوائح التنظيمية والسياسات الحكومية والإجراءات والتي لم تعد صالحة للعمل، لذلك يتم الارتجال في جميع المستويات سواء على مستوى القرارات أم السياسات والإجراءات والإرشادات، وتاليا تأسست منظومة عمل مختلة وفوضوية ووجد فيها الفساد منافذ عدة وبيئة خصبة للانتشار وتعاطي قيادات المؤسسات بطريقة التعاطي الرأسي الهرمي في اتخاذ القرارات.
ويُضاف إلى ذلك، وفقاً للخبير كوسا، الأطماع الشخصية وانخفاض الحس الوطني والأخلاقي، وانخفاض الوعي وعدم وجود الشجاعة بين الناس لمواجهة الفساد والمفسدين، وغياب القوانين الرادعة التي تؤدي إلى الإهمال القانوني وبطء الدعاوى القضائية وعرقلة سير العدالة، وكذلك الفساد الإداري لان الإدارة هي الحاضنة الأولى للفساد .
حلول بثلاثة محاور
وحسب كوسا فإن مكافحة الفساد يمكن العمل عليها من خلال ثلاثة محاور: الأول هو الإصلاح الإداري من خلال إحداث هيئة مستقلة للوظيفة العامة لإعادة بناء تركيبة هذه الوظيفة من الناحية التنظيمية والقانونية والمالية، والعمل على تأسيس جهاز مستقل لتحسين الخدمة المدنية يتمتع بالاستقلالية عن الحكومة.
أما المحور الثاني فيقع ضمن مفهوم الإصلاح المالي، من خلال وضع إستراتيجية لتتبع تنفيذ الإنفاق الحكومي وإيجاد وسائل جديدة في تحصيل الإيرادات وخصوصا الضرائب.
والمحور الثالث يتم عبر الإصلاح الاقتصادي، وذلك عن طريق تحرير العاملين في القطاع الاقتصادي من سلطة القانون الأساسي للعاملين في الدولة وإيجاد قوانين تتناسب مع الأنشطة الاقتصادية، و وضع نظام حوافز مرتبط بالإنتاج وطبيعة الإنتاج شريطة أن يكون مجزيا وفعالا يحقق دخول مرتفعة .
فساد متفشي..
ولا يتسع المجال هنا لذكر جميع الأمثلة، وهناك مؤشرات تدل على مدى الفائدة التي يجنيها البعض، وهذا لم يكن ظاهرة قبل الأزمة كنوع الدخان أو ماركة الألبسة أو وجود السيارة.
وكان من المخطط استخدام تطبيقات الحكومة الإلكترونية لتخفيف الاحتكاك المباشر بين الموظفين والمواطنين والحد ما أمكن من مظاهر الفساد الصغير، لكن ذلك لم يتم لأسباب عديدة، علما أن الدوائر الحكومية التي تستخدم حاليا ما يسمى بالنافذة الواحدة لا يزال فيها الاحتكاك موجودا بسبب غموض بعض القوانين وكثرة الأوراق والتواقيع الروتينية المطلوبة.
والأهم من كل هذا هو الأجور المتدنية في القطاع العام التي تضع الموظف بين خيارين لا ثالث لهما؛ إما السير في تيار الفساد والقبول بالرشوة، أو التضور جوعا.
ولكن، رغم ذلك، مازال هنالك الكثير ممن يؤمنون بالمبادئ الأخلاقية والدينية والوطنية ويرفضون المبررات التي يسوقها الفاسدون كذريعة لفسادهم.