هاشتاغ-نضال الخضري
يحضر فجأة وسط غياب ألوان الحياة المحتجبة وراء ستار من ظلمة التفاصيل، فالسوري محاصر بعثرات تجعل النظر للأفق مستحيل، ومغلق بستار الحدث الذي يجعل الأخبار وهماً يصعب التخلص منه، ودون سابق إنذار يلمع وميض من الغيب، فيصبح “الجولان” جزءا من الذاكرة، أو يعود ليتربع أمام العيون التي كسرتها الحرب، فهو أرض لها في الأجيال المخضرمة تصورات تتجاوز الحدث، وتجعل من ظلال جبل الشيخ تموجات تتراوح ما بين الحزن والفرح.
خبر ما يحدث في الجولان يملك وقعا آخر يتجاوز الحديث عن “أقليات” هي محور الحديث في العديد من “المحطات”، فالسوري الذي عاش على الأقل تفاصيل بداية الثمانينات يعرف أن مسألة الجولان هي وجع مجتمع، وليست مسميات تسعى الأخبار لتكريسها في ذاكرة الأجيال الشابة، والجولان أيضا ليس محطات طاقة تريد “إسرائيل” نصبها في مزارع السوريين، بل سردية بدأت من “طبريا” ومرت على مجدل شمس، وتركت صورا من حربين فيهما من الخيبة والأمل الكثير.
سردية الجولان المهملة تنتظر من يضع لها الصور التي تنقل نبضا ثقافيا، وتجعل من الطرق الوعرة باتجاه مدينة “الحمة” لحنا لحياة ماتزال تصرخ في الأعماق، فهناك حربين وأجساد استراحت على “تل أبو الندى”، وأصوات تعالت في “تل الفخار” ماتزال قادرة على التذكير بأن حرب 1967 لم تكن مجرد “هزيمة”، ففيها أيضا إصرار مجتمع على كسر حاجز الحرب، ورسم عشق مختلف لأرض هي محور حياة طويلة.
وفي السردية ملامح أخرى تعاكس ما تبقى من روايات النزوح التي غزت شوارع دمشق قبل أكثر من نصف قرن، فنوافذ عشق الحياة تحملها اللقى الأثرية لعهود ما قبل التاريخ، ويسير الجولان بقصصه دون نهايات لأنه أوسع من أي حملة تريد تذكيرنا به، فهو “جمال” خاص تحاول الذاكرة القريبة أن تدفنه تحت معالم الهزائم، لكنه يطبع الجميع بأشكال تتفوق على الذاكرة، لأنها نحت في التاريخ البشري وليس واقعا عسكريا أوجده اختلال ميزان القوى.
عندما نبدأ بكتابة سردية الجولان فإن “الاحتلال” يصبح وهما، لأنها تجعل من الأرض رموزا ملهمة بدلا من كونها قرارات سياسية، أو مواقف تتناقلها المحطات الإخبارية كحدث سينتهي مع الزمن، وربما تحتاج سوريا بأكملها لسردية يظهر فيها الجولان كمساحة حلم، وهامش لتاريخ قريب يبني جدار إحباط، فنترك الجمال ونتسلح بشعارات لا تحمل أي رمزية لما فقدناه عندما أصبح الجولان جزءا من قرار أممي فقط.
الأجيال القادمة ربما لم تتعرف على نوعية الصراع الذي ينتظرنا، فهي تعرف الجولان أو غيره كأسطر في الكتب المدرسية، وتجهل أيضا أن سردية الأرض التي لم تكتب هي التي جعلت قدرتنا على الهجرة تفوق أي خيال، أو حتى تتركنا دون أي قدرة على إبداع أشكال البقاء في مساحة الجمال التي خلقنا فيها.. فالجولان سردية مستمرة علينا إتمامها.