الخميس, ديسمبر 12, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةخطوط حمروعندَ نعليّه تستوي الرؤوسُ

وعندَ نعليّه تستوي الرؤوسُ

هاشتاغ _عصام التكروري

ليسَ مُستغرباً أنْ يكونَ السببُ الرئيس لجميع الصراعات التي عرفتها وتعرفها وستعرفها البشرية هو “شهوةُ المُلك”، تلكَ الشهوة التي لا تقفُ عند حدِّ التمتعُ بالسلطةِ والمالِ والشهرةِ وسطوةِ التحكّم بحيوات الآخرين، بل تتعداها لمناصبة العارفين أشدَّ العداء، وسببُ ذلكَ يكمنُ في أنَّ من استبدَّتْ بهم “شهوةُ المُلك” يدركونَ غريزياً أنَّ العلمَ لا يأتي بالغَلبةِ والقهرِ والإذلالِ ـ بوصفها من وسائل ممارسة السُّلطةـ وإنما يتحصلُ بالدأبِ ورغبةِ المشاركة والتعففِ عن حُطام الدنيا حفاظاً على نقاءِ الرؤية ونفاذِ البصيرة، لذا كانَ بديهياً أنْ تُناقضَ خصالُ المُلك خصالَ العلم، وأنْ تفارقَ خصالُ العارف خصالَ المُشتهي مُلكاً، ولا يمكن لعارفٍ أنْ يستحوذَ شيئاً من خصالِ صاحبِ المُلك ويستمرَ عارفاً والعكس صحيح، هذا الأمر لَحَظه أفلاطون الذي ينقلُ عنه أبو نصر الفارابي قوله:” مَن رامَ اقتناء فضيلةٍ فعليه نفي الرذيلة التي تقابلها فإنه قلّما تُحصل الفضيلة إلا بعد ذهابِ الرذيلة”، وأكادُ أجزمُ أنَّ الاستثناءَ الواردَ في عبارة أفلاطون هذه يرجعُ للفارابي نفسه خشية أنْ يُثيرَ حفيظةَ سيف الدولة الحمداني (915ـ 967) بوصفه صاحب المُلك الذي كانَ الفارابي (874ـ 950) من عدادِ مجالسيهِ، ومجالسةُ أصحاب العلم لأصحابِ السلطة تقليدٌ ثابرَ الحكّامُ على ممارسته تعويضاً عن الشعور بالنقصان الذي يسكنهم حيالَ المتوجين بالمعرفة فيتخذونَ منهم “أكسسواراً” وفقاً “لعقد إذعان” يفرضه الحاكم ، فمثلاً كانَ يتوجبُ على مجالسي سيف الدولة الحمداني أنْ يُقبّلوا الأرضَ من تحتِ نعليهِ كتعبير عن أنَّ الرؤوسَ اليانعةَ بالمعرفة يجبُ أنْ تكونَ يانعةَ بالولاءِ المُبين، وبالنسبة للحاكم إثباتُ هذا الولاء لا يكونُ إلا إذا صارتْ رؤوسُ العلماء بمستوى نعلّي سيف الدولة بما فيها رأس الفارابي والخوارزمي وابن خالويه وابن جنّي الذين كانوا من جُلاّسه، لكن المتنبي شذّ عنهم، فلحضورِ مجلسه اشترطَ على سيفِ الدولة إعفاءه من تقبيل الأرض نحت نعليه، إضافةً للسماحِ لهُ بالإنشادِ جالساً فكانَ لهُ ما أراد!

يُدركُ جلُّ من استبدتْ بهم “شهوةُ المُلك” سحرَ المعرفة بمقدار إدراكهم بأنَّها تستعصي على رؤوسهم لشدّة ما أسكرها التآمر، وشلَّ إبداعها قلقُ الخيانة، واشتعلَ فيها هوسُ قهرِ النفوس، لذا، ورغبةً منهم بالجمع بين سحرِ المعرفة وشوكةِ الحكم ألحقوا العارفين بمجالسهم، وتمَّ الإيحاء لهم بضرورةِ التدلّه بعلمِ الحاكم سواء في مجلسهِ أو من على منابرهم عندما يخاطبونَ العامة، وعبرَ الزمن تراوحَ مصيرُ المستنكفين بينَ استبعادهم مع علومهم من دائرةِ التداولِ، وصولاً إلى إدارةِ أمورهم من قبلِ إمّعاتٍ لا يتعدَ علمها مستوى كعبها، أما منْ التحقَ بمجلسِ الحاكمِ وظلَّ محافظاً على أنَفةِ العارفِ وفضيلةِ قولِ الحقّ فسيُحبس في حظيرةِ الحميرِ، هذا ما كانَ من أمرِ أبي نواس الذي سألهُ المأمون عن رأيه بقصيدة ألّفها ليجيبه: “أني لا أشمُّ فيها رائحةَ البلاغة”، ليأمرَ المأمونُ بسجنهِ شهراً في حظيرةِ الحميرِ، وبعد خروجهِ عاد مُكرهاً لحضورِ مجلسِ المأمون الذي عادَ وبدأ بإلقاءِ قصيدةٍ أخرى، فقامَ أبو نواس في منتصفها ليخرجَ، وحينَ وسأله المأمون عن وجهتهِ ردَّ أبو نواس: إلى حظيرةِ الحميرِ يا أمير المؤمنين.

شجاعةُ قول الحق المُستند إلى المعرفة الصرفة هي صنو المعرفة الحَقّة ومِحكّها، والتخلي عنها من قبل العارفين المحيطين بالحكّام ـ بذريعةِ الابتعادِ عمّا يزعجُ أولياءَ الأمرِ ـ هو أمرٌ مُذلٌ أكثرَ من تقبيلِ الأرضِ تحتَ نعالِ الحكّام لأنّه يحوّلُ السياسةَ من “فنِّ المُمكنِ” إلى “فنِّ الهزيمة”.

تصحيحُ العلاقةِ بينَ العارفِ من جهة، والحاكمِ من جهةٍ ثانيةٍ يكونُ عندَ الاقتناعِ بأنَّ وظيفة العارف تنحصرُ بقولِ ما يراهُ صحيحاً من زاويةِ معرفتهِ، من هنا لا يجوزُ أنْ يُعتبر خائناً إذا خالفَ رأيُهُ توجّهَ الحاكم، كما لا يعنيهِ أنْ يُقالّ عنه أنّهُ شريكٌ في صنعِ القرارِ فجُلَّ ما يطمحُ إليهِ أنْ يكونَ علمه في صالح الجميع.

برأينا ، ما كانَ لجدليةِ التناحرِ بينَ الحاكمِ والعارفِ أنْ تتحولَ ـ في العالم المُتقدم تحديداً ـ إلى حوارية التكامل بينَ صانعِ القرار ومراكزِ الأبحاث لو لم تعتمدْ تلكَ الدول في رسمِ سياساتها حكمةَ المتنبي القائلة:

الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ

هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني

لَولا العُقولُ لَكانَ أَدنى ضَيغَمٍ

أَدنى إِلى شَرَفٍ مِنَ الإِنسانِ

http://لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

مقالات ذات صلة