يتحدث الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، عن إيقاف الحروب في العالم، وهو يعني بالدرجة الأولى الحرب الأوكرانية أكثر من قضية الشرق الأوسط، لكنه بالتأكيد سينظر إلى ما يحدث في حرب غزة ولبنان من منظور يتوافق سياسيا مع ما تريده “إسرائيل”، فمحاصرة النفوذ الإيراني أساس لأي إدارة أمريكية، ورسم ملامح السلام القادم موجود في رؤية ترامب منذ إدارته السابقة عبر “الاتفاقات الإبراهمية”.
في صورة أولية فإن طموح ترامب يصطدم عمليا بتحولات عميقة ناتجة عن توطين الأزمات في الشرق الأوسط، والحرب في غزة ولبنان لم تخلف فقط حالة اشتباك إقليمي فقط بل رسمت ملامح افتراق واضح في أي مسيرة سلام يمكن أن تظهر لاحقا، والواضح أن القوة النارية وتكتيكات الحرب التي استخدمتها “إسرائيل” لا تريد التفوق فقط، إنما القضاء أيضا على إمكانية أي شراكة سياسية مع القوى الموجودة في المنطقة، فالتصور “الإسرائيلي” بدأ الحرب بعد طوفان الأقصى بحلم تغيير المعادلات السياسية القائمة التي تتيح لإيران التحكم بالمسار العام للمنطقة.
تقدم الحرب في غزة صورة عالمية وليست فقط “إسرائيلية” لأنها أوضحت أن السياسة الدولية تريد بالفعل منح مساحة إضافة لـ”إسرائيل“، وعندما انتقلت الحرب باتجاه لبنان وظهرت التصفيات السياسية بوصفها جزءاً أساسياً من المعركة، فإن رد الفعل الأمريكي على الأقل كان يحتفي بنهاية “مرحلة سياسية” خلقت على الأقل اعترافا بأن القوى المعادية لـ”إسرائيل” يحق لها البقاء، فتصفية قادة حزب الله وحماس ظهرت بوصفها نهاية سياسية لمرحلة متعبة للإدارة الأمريكية.
المرحلة القادمة ستبدو أكثر غموضا بنظر الرئيس دونالد ترامب، فـ”إسرائيل” استطاعت بالفعل تنفيذ تصفيات سياسية كبيرة، ولكنها خلفت واقعا مختلفا يصعب معه التفكير بنوعية السلام الممكن بعد أن إجرت “إبادة” في قطاع غزة، وفي المقابل فإن “إسرائيل” ستخرج من الحرب بقواعد مختلفة لوجودها بعد أن خاضت أطول حرب في تاريخها، وتعرضت خلال حربها مع لبنان لاختراق واضح في جبهتها الداخلية التي باتت جزءاً من المعركة.
بالتأكيد لا يمكن مقارنة الخسائر الفلسطينية واللبنانية بما تكبدته “إسرائيل”، لكن المعادلة على الجانب “الإسرائيلي” لديها مقاربة مختلفة لأنها قائمة على توازن دقيق ما بين الأمن والقدرة على ردع محيطها، وهذا الأمر سيصبح جزءا من أي محاولة سلام أو حتى تخفيض للتصعيد في المنطقة، وفي الجانب الآخر فإن مسألة “النفوذ الإيراني” تبدو معضلة مختلفة وتحتاج إلى مقاربة مرتبطة أولا وأخيرا بالأمن الإقليمي الذي شهد انحسارا عربيا واضحا، وهذا الأمر سيؤثر أيضا في أي طموح للرئيس ترامب في رسم ملامح المنطقة من جديد.
المعادلات الإقليمية تبدلت على المستوى الاستراتيجي بعد حرب غزة ولبنان، وإزاحة قادة سياسيين بعد الاغتيالات وضع احتمالات غامضة، لأن التوجهات السياسية باتت مجهولة خصوصا أن أذرع هذه القيادات العسكرية ما زالت موجودة على الرغم من “الانهاك والاستنزاف”، وتركت “إسرائيل” مساحات تطرف أكبر وانزياح لتلك القوى كي تحافظ على وجودها بأثمان مكلفة، فعلى المستوى العسكري فإن الحرب لم تعد تملك أهدافا بنظر “إسرائيل”، بينما سيبقى حزب الله و”حماس” ظواهر لا يمكن تجاوزها بالتدمير الممنهج لأنهم ما زالوا حتى اللحظة جزءاً من التوازن الإقليمي، والأهم أن قضية شعوب المنطقة وحقوقها شأن مصيري، حتى لو لم توجد قوى فاعلة جامعة تنجح في العمل لتحقيقها.