هاشتاغ _ نضال الخضري
يبدو أن طبيعة سوريا لم تبدأ برحلة الفينيقيين على طول شواطئ المتوسط، وربما يمثل الشتات اليوم صورة مصغرة للون تاريخي صنعته الجغرافية أو الإرادة أو ربما الزمن، فهناك رغبات مكبوتة تصرخ فجأة وتسحبنا لبقاع مختلفة نلونها بمرور عابر، ثم نرحل في ثقافات متعددة تكوننا من جديد، وتنزاح أسماءنا ووجوهنا نحو “تغريبة” جماعية تكرر نفسها وتختبر قدرتنا على خلق بدايات وفصول لم تنته.
فارق رحلة الشتات المعاصر عن التجارب التاريخية أنها مرصودة من الجميع، ولا تحمل معها إمبراطوريات جديدة أو ثقافة تجعلنا طيفا يجول في العالم ويشكل عوالم فارقة، والتنقل أصبح لجوءا وفقاعة سياسية تغلف الوجوه السورية بظلال لمأساة نصنعها وتشكل صدمة النزوح الجماعي، فلوحة الشتات السوري تضع ثلاثة تصورات متناقضة:
ينطلق التصور الأول بضياع ما يستحق التجمع السوري، وما يشده إلى الرغبة في الحياة وإبداعاتها في وجه الحرب، فالحروب تبدل الثقافات وطبائع المجتمعات، لكنها في سوريا تأخذ مساحة أخرى للانتقام من الذات، ولكتابة “الانهيار” بخلق لون فريد يمنح الرحيل بريقا خاصا، فحروبنا لم تكن يوما لرغبة في التغيير أو صراعا لتغيير ثقافي، إنما هي “انتقام سياسي” لا يحمل معه أي احتمال لكسر سطوة الماضي والاندفاع نحو المستقبل.
التصور الثاني يرسم مغامرة يصعب خوضها في سوريا، فالتحدي الأسهل هو التغيير خارج المحيط الاجتماعي، والإبحار مع التيار الجارف الذي يعيد رسم وجوهنا من جديد، فنخلع الحجاب ونبدد الخوف الذي لازمنا لأن المواجهة مضمونة في مجتمعات “اللاحجاب”، ورمزية أي تصور تراثي تصبح جوفاء أمام القدرة على تلبس كل الثقافات، والتبرؤ من المخاوف التي تلازمنا، فما نخسره بالرحيل ليس بلادنا بل ذواتنا التي تصبح تصورا آخر لعجلة إنتاج ممتازة.
و في التصور الثالث؛ الفشل في جعل تجربة اللجوء حالة فريدة، لأنها تبددٌ لا يشبه نقيضه الذي قامت عليه “إسرائيل”، فهو لا يحمل “حلم العودة” أو “غيتو” مهما اتسع يبقى متشحا بـ”هوية” خاصة، واللجوء السوري على امتداد قرن كامل هو حلم “اغتراب” ينتهي بـ”الاندماج” دون أن يخلف فارقا يرسم خلاصا من خارطة اللجوء الجماعي.
رحيلنا هو خارج مألوف كل التصورات لأنه لم يخلق “الحي السوري” في قلب لندن، أو أي من المدن التي تبعثرنا فيها منذ بداية القرن الماضي.. ربما تركنا أطعمة متناثرة في كل مطابخ العالم.. وربما رمينا أسماء مدننا في زوايا متعددة، لكنها بقيت مجرد ذكرى لأول جيل ارتحل مكررا تجربة تاريخية، وأصبحت الأسماء مجرد عودة لتاريخ مدن اللجوء.
مازلت أذكر متجرا شدني في لندن يدعي أنه “بوابة دمشق“، وهو بالفعل بوابة اللجوء التي أصبحت علامة تجارية في كل المدن.. بوابة دمشق هي اتجاه واحد ولا يمكن العبور به إلا نحو تاريخ طويل من اللجوء.. بينما تبقى سوريا بمدنها تنتظر زمن العودة لما يجمع من بقي فوقها بعيدا عن كل مراحل اللجوء.