هاشتاغ-رأي-أنس جودة
للسرديات دور مركزي في حياة الشعوب ومن دونها لا وجود لمجتمع واحد، بل لمجرد أفراد أو مجموعات متنافرة متصارعة لا تمتلك تصوراً مشتركاً لمستقبلها، فالهوية ليست معطى إيديولوجيا مغلقا، وليست فلسفات ونظريات لعلم السكان، هي حدوتة وقصة مشتركة يؤمن بصدقها أفراد المجتمع ويشعرون بأهميتها لتحقيق وجودهم المشترك.
لا يحمل التاريخ السوري الحديث كثيراً من القصص المشتركة، فلكل سرديته ومظلوميته وقصته الخاصة، حتى الجلاء نفسه هناك من يعتقد، على صمت، أنه منجز صوري تتغنى به طبقة معينة لمصلحتها بينما هو لا يعنيه من الأمر شيئاً، ولكن على الرغم من ذلك يمكن تقصي ثلاث عصبيات شكلت نقاطا لعلائم أساسية في التاريخ السوري الحديث.
العصبية الأولى هي عصبية التنوير التي حملت بذور الانتماء العروبي ورافقت الثورة العربية الكبرى ضد السيطرة التركية ولكنها تحطمت عند الانتداب والخديعة الكبرى وضياع حلم الدولة الكبرى.
ثم جاءت بعدها عصبية الاستقلال على مضض في البداية لكنها تطورت وترسخت بقوة، فالمجتمع الذي خسر سوريا الكبرى وجد نفسه أمام واقع دويلات كان إلى زمن قريب يعتبرها متصرفيات وسناجق، فكان الرفض الواسع لشعور المهانة العميق، وعلى الرغم من أن التطورات السياسية الدولية هي ما كانت الفيصل في تحقيق الاستقلال ثم الجلاء، فإن الوصول إلى المبتغى بحد ذاته وتحقيق النصر المفترض ثبت هذه العصبية في أذهان السوريين ولهذا ما زلنا نرى جزءاً من وهجها حتى اليوم.
عمليا لم تستطع هذه العصبية الصمود أمام تحديات التنميةؤ فنضال الاستقلال السياسي مختلف جداً عن نضال الزراعة والصناعة والتجارة والعدالة الاجتماعية والتعليم والصحة، فتشكلت عصبية العدالة الاجتماعية التي جاءت لتحقيق التوازن الطبقي في اقتسام الموارد وصنع القرار، ووجدت في الأحزاب اليسارية والشيوعية والقومية ملجأً وحاضنا، وفي الجيش رافعة سريعة لتحقيق المكانة والوجود.
فامتدت العصبية وتطورت وجاءت المصالح الدولية والخوف من امتداد النفوذ الشيوعي إلى المنطقة لتحسم الجدلية بتكريس نمط الحكم الأحادي في الوحدة وما بعدها لتصبح هذه العصبية وسردياتها كلها خصوصاً بقسم من السوريين ونما شعور الرفض لها عند القسم الآخر، صحيح أن هذه العصبية صمدت مدة من الزمن بسبب المكتسبات التي حققتها الطبقة الوسطى في التعليم والصحة والمستوى المقبول من المعيشة، ولكن الرفض لها توسع وانتشر عندما حطمت نفسها بنفسها، فضاعت وضيعت، وطغت وهشمت، وفشلت وأفشلت.
في سنوات الحرب ظهرت السرديات الأخرى بقوة، فغياب السردية الوطنية جعل كل طرف يعود إلى مظلومياته وقصصه الخاصة ليشد العصب المحلي في المواجهات العسكرية والسياسية، حتى ترسخت هذه السرديات وتحولت إلى أسوار وخنادق لا يمكن تجاوزها بالسياسية ولا بالاقتصاد والتنمية، وقطعاً ليس بالعسكرة.
فحتى وإن طرحت حلول جزئية كأشكال مختلفة من الحكم المحلي او الحديث عن تبادل المصالح والتجارة وحتى الوصول إلى توزيع ما لصنع القرار واقتسام الموارد، تبقى كلها، على أهميتها القصوى اليوم، مجرد حلول تقنية تهدئ من النزاع ولكنها لا تنتقل بالمجتمع إلى مسار جديد بل بخلاف ذلك ستعيد إنتاج المشكلات والتحديات نفسها، فمسار السرديات الأحادية، ووهم التجانس، يولد دائما دوائر أصغر فأصغر حتى الاختناق.
نحن بكل بساطة بحاجة إلى قصة جديدة تبني عصبية مشتركة جديدة، لا تُستقى من الماضي المجيد والفخر التليد، ولا علاقة لها بالوليد والرشيد، قصة تحترم الماضي وتتعلم منه ولكنها لا تبني على أساسه، قصة قائمة على انتصارات حقيقية وفعلية للإنسان والمجتمع، قصة سورية تتطلع للمستقبل وتصل بهم لتحقيق إنجاز مشترك يشعرهم بالفخر ويعطيهم شعور السعادة.
علينا أن نبحث عن هذه القصة، فإن لم نجدها علينا صنعها صنعا، وكتابتها حرفا وكلمة وفاصلة ونقطة، فوجودنا كلنا مرتبط بوجودها وإيمان الناس بها، ومن دونها نحن تائهون في سراديب هوياتنا القاتلة.
أنا باحثٌ فهل أنتم باحثون؟