الأحد, ديسمبر 22, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةخطوط حمرالقانون وأحصنة طروادة

القانون وأحصنة طروادة

هاشتاغ_رأي أيمن علوش

تُشرّعُ القوانين وتَصدرُ المراسيم والقرارات والأوامر والتعليمات من أجل ضبط العلاقات بين مؤسّسات الدولة، وبـين الدولة والمواطنين، وبين المواطنين أنفسهم، بما يضمن عدم الانتقاص من حقوق أيّة جهة، ونظراً لأهميّة القانون في تتظيم المجتمعات فقد أُعطيت السلطة التشّريعية الدرجة الأعلى في معظم المجتمعات، كما يُلاحظ أن أكثر الدول تنظيماً وتقدّماً واحتراماً للقيم الديمقراطيّة الحقيقيّة وحقوق الإنسان هي الدول التي أعلتْ السلطة التشريعيّة على كافّة السلطات الأخرى وعملت بالقانون نصاً وروحاً.

تحصل الدولة على كامل حقوقها من ضرائب وجمارك ورسوم بقوّة القانون، وتَفرضُ النظام وتَمنعُ المخالفات من تجاوزات واعتداءات وسرقات وفساد وتنمّر بقوّة القانون أيضاً. وفي الوقت نفسه يحصل المواطن على كامل حقوقه من حياة كريمة وخدمات مناسبة، سواءً خلال مرحلة طفولته أو تعلّمه أو عمله أو تقاعده، بقوّة القانون أيضاً.

عندما يحضر القانون تحضر الحقوق، وعندما يغيب القانون أو يُغيّب تصبح الحقوق مرهونة بمزاجيّة القاضي والمسؤول والموظّف والعامل والمواطن في هذا الواقع يتسيّد الفساد الموقف، فيتنامى ويقوى ليصبح مؤسّسة متكاملة ومحصّنة، لها أزلامها وحُماتها في كلّ ركن من أركان مؤسّسات الدولة، ويكون الخاسر الأكبر هو الوطن الذي تضعف في أبنائه مشاعر الانتماء والمواطنة، فيتعاملون مع الوطن وكأنه جغرافيا مستأجرة.

يعتبر القانون السوريّ من أقدم وأقوى التشريعات، فهو يلحظ كافّة تفاصيل العلاقات ويضع حدوداً قاطعة لأي انتهاك أو تجاوز لها، وليس ذلك بغريب على هذه البقّعة الجغرافيّة من العالم التي وضع فيها الحاكم السومري أور نمو في القرن الثاني والعشرين قبل الميلاد أوّل مدوّنة قانونية ليأتي من بعده حمورابي في عام ١٧٦٠ ق م بشريعته المشهورة، إضافة إلى ما اكتسبه القانون من غنى من أعراف وثقافات هذه المنطقة الضاربة في التاريخ، ومن تمازجه مع الحضارتين المصريّة القديمة واليونانيّة.

لا غرابة في ظلّ هذا العمق للقانون في تاريخ سورية والمنطقة أن تكون كليّة الحقوق في جامعة دمشق من أقدم الكلّيات العلميّة ، وأن يكون خرّيجيها من أقدر وأميز الخريجين على الساحة العربية، ولكنّ الغرابة في ما نقلته صحيفة البعث المحلية العام الماضي عن نائب رئيس جامعة دمشق صبحي البحري “بأن أكثر كليّة يحدث فيها حالات غش بين الطلاب في الامتحانات هي كليّة الحقوق ….. في الوقت الذي يفترض بطلابها أنهم يعرفون القوانين والأنظمة.”

هذه الحقيقة نكاد نلمسها في ما وصلت إليه بعض الأوضاع في سورية، فالأبنية العشوائيّة هي نتاج غياب القانون، وسرقة الكهرباء والاعتداء على المياه الجوفيّة والبيئة الطبيعية هي نتيجة غياب القانون، والمواد المهرّبة والاحتيال وفساد الموظف والمسؤول وتجاوزاتهم هو نتيجة غياب القانون، والتهرب المالي والضريبي والجمركي والغش في مواصفات المستوردات والمنتجات المحليّة هو نتيجة غياب القانون.

عندما يحضر القانون يُمكنك أن تُحاسب المسؤول المقصَر والموظف المرتشي والتاجر المُحتكر والمواطن المُعتدي على حريتك وشارعك وبيئتك وقريتك ومدينتك ووطنك ومستقبلك ومستقبل أولادك في هذا الوطن. وعندما يحضر القانون تحضر الحقوق والواجبات والمواطنة ويحضر الوطن في أجمل صوره والمستقبل في أزهى وعوده.

عندما يحضر القانون ستزداد واردات الدولة ودخلها القومي، فتَرفعُ من مستوى خدماتها ورواتب موظفيها ويصبح الصناعي والتاجر اكثر حرصاً على إستثمار أمواله في الداخل، وهذا سيعود بالفائدة على كلّ فرد من أفراد الوطن، فتنتفي كثير من أسباب الهجرة، أو تتراحع إلى أدنى مستوياتها.

عندما يحضر القانون وتنتعش الدولة والمواطن سيكون الجندي والمعلم والاستاذ الجامعي والعامل والطبيب والمهندس والفلاح والتاجر والصناعي أكثر التزاماً بمصلحة الوطن، سواءً بقوّة أخلاقه أو بقوّة القوانين الضابطة للأخلاق، فيغيب القاضي الفاسد والمحامي المشوّه وموظف المالية الذي ينظّم للتاجر والصناعي مستحقّات الدولة عليه من ضرائب، وتغيب أيضاً الممارسات الشاذة المشابهة لبعض موظفي الجمارك والمحافظة والبلدية والهجرة والجوازات والتجنيد والتعليم العالي والخارجية وغيرها.

وعندما يغيب القانون يغيب شعورنا بالأمان، حيث يصبح حاضرنا مثقلاً بالوجع، ومستقبلنا خاوي الأمل، وهذا ما يعكسه إقدام الكثيرين من المقتدرين من المسؤولين و ميسوري الحال على إرسال أولادهم إلى دول الغرب للحصول على جنسيات هذه الدول، وكذلك ميل عدد لا بأس به من المسؤولين انفسهم للانتقال للعيش في الخارج أو لنقل الأموال التي جناها بعضهم بطرق لا قانونية للاستثمار خارج سورية في مشاريع يجب أن تكون الأولوية فيها للوطن وأبنائه.

نحن بحاجة إلى إنعاش قوّة الأخلاق للمضي بوطننا إلى الامام، وقد ثَبُتَ، حتى في أكثر المجتمعات حضارة ومواطنةً، أن الأخلاق تبقى هشّة إن لم نحصّنها بقانون رادع، خاصة في واقع دولتنا ومنطقتنا التي تطمح كثير من دول الشرّ إلى العبث بأمنه ومقدراته ومستقبل شعوبه، من جهة، واستعداد حصانات طروادة الداخل لإتمام هذه المهمة، سواءً عن قصد، أو غير قصد، من جهة ثانية.

الوطن بخير عندما نتوقف عن التعامل معه وكأننا استأجرناه، ولا بدّ من ترجمة التضحيات التي قدّمها الوطن وأبناؤه، سواءً بالخسارات البشريّة أو الماديّة أو المعنويّة للسير نحو ما تستحقّه هذه الأرض المباركة والمتأصّلة الجذور.

دكتوراه في السياسة الدولية/ اكستر

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

مقالات ذات صلة