بعد ثلاثة أسابيع من سقوط سلطة البعث فإن المساحة السياسية السورية الداخلية تبقى غامضة، وباستثناء التعيينات التي أجريت لوزراء ومسؤولين فإن “الدولة” كجهاز فيزيائي غائبة إلى حد بعيد عن مساحة حياة المواطن، وهذا الأمر لم يوقف الحركة الدبلوماسية النشطة اتجاه دمشق لاستكشاف التوجهات المرتقبة، ويواجه السوريون ولأول مرة منذ الاستقلال حالة بحث جدي عن مستقبل يمكن أن يستوعب آلية حياتهم التي اعتمدت اعتمادا قويا على سلطة الدولة.
في المؤشرات الأساسية فإن معظم ما يجري هو تحول اقتصادي مرتقب وتجميد سياسي بانتظار تثبيت الأمر الواقع، وعلى الرغم من أن الأمور لم تتغير على المستوى العام لأن العقوبات لا تزال قائمة وإمكانية الاستثمار صعبة قبل ظهور تشريعات قادرة على حماية رؤوس الأموال لكن “شكل الأسواق” يوحي بأن اقتصاد السوق تم اعتماده قبل إقرار توجهات اقتصادية عامة، أو استراتيجية رسمية بهذا الخصوص، أو حتى تصريحات رسمية حول التزام سوريا الاتفاقات الدولية التي أبرمتها سابقا مع دول الجوار على الأقل.
بالتأكيد يمكن تفهم المخاوف الداخلية والخارجية التي تعصف اليوم بسوريا، فالوضوح السياسي يحتاج إلى استراتيجية استقرار بعد سنوات الحرب، وهذا الأمر لا يحتاج فقط إلى مسار انتقال يبدو مؤجلا في هذه اللحظة، بل أيضا إلى حراك سياسي – اجتماعي يردم الفجوة التي خلفتها نهاية حقبة أوجدت “قوة الدولة” التي تنوب عن القوى الاجتماعية والسياسية كافة.
السؤال الذي يدور اليوم في الفلك السوري هو إلى أين نتجه؟ فالسوري الذي كان يتحرك منذ الجمهورية الأولى في مساحة واضحة من نفوذ الدولة وقوتها في رسم مسارات ربما تتعثر أو تنجح؛ ينتظر اليوم اتجاها لا يضعه في مستوى ما يحلم به بل في شكل حياته اليومية بعد أن دخل في احتمالات غير متوقعة معيشيا، وذلك بعد معاناة قاسية في السنوات الماضية نتيجة التضخم الذي ضرب سوريا.
التحولات السياسية الكبرى في سوريا لن تكون في هوية الدولة بقدر كونها في دخول المواطن في مرحلة التفاعل مع طبيعة التحول الذي شهده على شكل قفزة لا تزال مستمرة بانتظار أرضية صلبة يستطيع الوقوف عليها، فالسوريون وعلى الرغم من الظروف السابقة كلها هم شعب بمزاج ثقافي مركب، وبتكوين اجتماعي قادر على البحث عن أشكال جديدة لحياته، ورسم تفاعله مع التحول الذي يعيشه اليوم يبدو أساسيا لنجاح أي تجربة قادمة.
الغموض في المساحة السياسية يدفع للتوتر، والمشهد السياسي الصعب يشير إلى أن المهام القادمة لا تحتمل الانتظار، فالشعور بالاستقرار يتم في اللحظة التي يشعر فيها أي سوري أن مساره بات واضحا وأنه لا يحتاج إلى البحث عن طرق الهجرة لإيجاد أمانه الشخصي، فالمعاناة السابقة على المستوى المعيشي ربما تكون الدليل الأساسي الذي سيعتمده أي سوري لقياس التغير الذي حدث، والاستقرار الاقتصادي لن يكون حقيقيا من دون حاضنة سياسية قادرة على خلق علاقات جديدة وتفاعل مع دولة للمرحلة القادمة.