هاشتاغ – رأي: نضال الخضري
عندما ينكسر التوازن الاجتماعي فإن سقف الاحتمالات يصبح مفتوحاً، فالمرحلة الحرجة لسوريا التي بدأت قبل أشهر بدأت من نقطة مجهولة واستمرت وفق إيقاع لا يوحي بـ”وفرة” التفكير بطبيعة الاحتمالات الخطرة، وبإمكانية الوصول إلى نقطة تصبح فيها الاستباحة على مساحة غير مألوفة، فــ”الحوادث” الفردية لم تكن ضائعة داخل حالة من “الوفرة” في التعامل مع الواقع السوري، والشعارات الطائفية من الأطراف كلها لم تظهر ظهورا عرضيا فهي نتيجة منطقية لمؤشرات سبقتها.
في سوريا غابت منظومة لا نظام، فما حدث هو انتهاء بيئة سياسية–اجتماعية لم يخلقها النظام السابق؛ بل تشكلت في مراحل ما قبل الاستقلال، وكونت على مدى السنوات خطوطا حمرا على المستوى الاجتماعي تحفظ التوازن السكاني المتنوع والمختلط، ولم يكن أي نظام سياسي مسؤول عن هذا الشكل المركب من العلاقات، فطبيعة الحياة السورية فرضت قانونها وألبسته لكل التشكيلات السياسية التي ظهرت على امتداد العقود الماضية.
لم تكن هناك وفرة في التفكير منذ اللحظات الأولى للتحول السياسي الذي شهدته سوريا مؤخراً، وكان الفراغ الذي خلقته حالة انهيار “المنظومة” واضحاً في انهيارات متتالية إضافية ربما أغفلت أن المساحات الاجتماعية المفتوحة في سوريا أصبحت معرضة لأخطار مختلفة، وباتت سوريا مسرحاً لمشاهد مركبة لا يمكن أن تنتج سوى تباينات داخل النسيج الاجتماعي.
ربما ما حدث في الأمس صورة قاسية لكنها ليست منفصلة عن المشهد العام الذي يحتاج إلى”الوفرة”، فالشعارات الطائفية وصلت إلى دمشق على الرغم من أنها لم تشهد حالات عنف كما في مناطق أخرى، وهذا الأمر غير مسبوق في تاريخ سوريا الحديث، فالصراعات كانت سياسية على طول الخط الفاصل ما بين انهيار الدولة العثمانية والمرحلة المعاصرة، وفي غضون أسابيع قليلة شهدنا معاكسة للمسار التاريخي السوري، سواء في جرمانا الملاصقة لدمشق أم في حمص والساحل وغيرها من المناطق.
هناك لحظة فارقة يمكن فيها إعادة ترتيب البيت السوري من جديد، لكن هذه “اللحظة” مفقودة في ظل التفكير باتجاه واحد لدى جميع الأطراف، فالتأسيس الجديد لم يظهر والفراغ الاجتماعي اليوم يتفوق على أي فراغ سياسي آخر، ويحتاج إلى كسر الحاجز الضيق في التفكير بسوريا على أنها “إرث” لطرف من دون آخر، فترابطها لا تكفله العمليات العسكرية، ولا أي نوع من أشكال التمرد المنظم أو العفوي، ففي النهاية هناك حالة اجتماعية تتصدع، وتتطلب التحرر من الماضي القريب الذي يبدو وكأنه المبرر الوحيد لتصرفات الجميع.
المراحل السابقة لن تعود، والقادم الأصعب لن يكون بالدم ولا حتى بالتسامح، فالانتقام أو عفى الله عن ما مضى هي نماذج انتهت، والوفرة في التفكير يمكن أن تقودنا إلى عقد اجتماعي مفقود، فالانتقام الحقيقي أو العفو الفعال لا يكون إلا بإبداع يجعل الجميع ينخرط بحالة بناءة، فسوريا ليست لأحد لأنها وليدة قدرة قاطنيها على خلق الحياة بالسلم الأهلي المستدام.