الإثنين, ديسمبر 30, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةكلام الناسبخصوص الدودة والتفَّاحة ومقص الرقيب 

بخصوص الدودة والتفَّاحة ومقص الرقيب 

هاشتاغ-رأي-عصام التكروري

ليستْ بقليلة المرات التي تمّ فيها إزالةُ مقاطع كاملة من حلقات قمتُ بتسجيلها لفضائية محلية، ووصلَ الأمر في المرة الأخيرة إلى منع عرض الحلقة بأكملها.

 

بالنسبة لي، أنْ تمنعَ الرقابة بث حلقة مسجلة أهونُ عليّ ـ وبما لا يُقارن ـ منْ أنْ تسمحَ ببثها بعد أنْ تُعمِل بها مقصَّات الرقابة حذفاً وتقطيعا.

 

إذ لمِنَ المُزعج أنْ تكتشفَ دودة في تفاحة تأكلها، لكن منَ المُقرف أنْ تكتشفَ وجود نصف دودة.

أقرأ المزيد: عصاميّون .. ولكن

مشكلتي مع الرقابة ـ وفي أي مكان بالعالم ـ هي مشكلة قانونية بالدرجة الأولى من منطلق أنَّ سلطة الرقيب أوشكت على أنْ تسمو على سلطات الدولة جميعها.

 

بل ويُهيّء لي أنَّ تدخله قادر على إلغائها جميعاً “بضربة مقص”، فهذا التدخل يُلغي القوانينَ الناظمةَ لحريةِ التعبير والصادرة عن السلطة التشريعية.

 

ويكفّ يدَ السلطة القضائية عن ممارسةِ اختصاصها الأصيل في محاكمةِ كلِّ فكرٍ أو فعلٍ ينالُ من أمنِ الدولةِ وأمانِ المجتمع.

أقرأ المزيد: نساءُ سوريا: إجازةٌ في الجنّة

ويقصي أجهزة السلطة التنفيذية عن ممارسة صلاحيتها بتنفيذِ الأحكامِ القضائية، وإذا كان الدستور السوري قد حرّمَ تحصينَ جميعَ الأحكام من حق الطعن

 

فإن أحكام الرقيب لا تخضع لهذا النهي الدستوري وكأنَّ المنظومة المعرفيّة الشخصيّة للرقيب باتت بحكم الوحي الإلهي لا يأتيه النكير من بين يديه ولا من خلفه.

 

ما منْ أحد يمكنُ له أنْ ينكرَ حقيقةَ أنَّ الرقابة على حرية التعبير موجودة في كلِّ دولِ العالم.

 

بل وأكادُ اجزم أنَّ الرقابة التي يمارسها الغرب هي أكثر حزماً من أي مكانٍ آخر.. لكن ما يجعلها تحظى بالقبول من النخب والعامة على حد سواء ( القبول هنا بمعنى الشرعيّة)

 

هو كونها تُمارس من قبل أجهزةٍ تخضعُ لرقابة القضاء وذلك للتأكد من أنَّ الرقابة تتم وفقاً للقوانين الناظمة لحرية التعبير.

 

بتقديري، مقابلَ هذه الرقابة المقوننة ثمَّة رقابة أكثر فاعلية أسميها “الرقابة البنيوية العميقة”، هذه الرقابة لا تعتمدُ على القصّ والحذف.

 

بل على تبني الأفكار المناهضة للنظام المؤسساتي للدولة، ومن ثم ممارسة ضخ إعلامي يشترك به العارف والجاهل معاً

 

بشكل يؤدي إلى تمييع تلك الأفكار وتسخيفها، ويجعلُ كل من يتبناها عرضةً للتهكم والسخرية وصولاً إلى عزله اجتماعياً.

 

هذا ما حصل مع أفكار غارودي وتشومسكي وقبلهما باكونين وماركس وقبلهما بلانكي و ديدرو (لا أناقش هنا الأفكار بحد ذاتها فهذا أمر آخر ) ثمَّ هل تذكرون رواية 1984 لجورج ارويل؟

في كتابهِ ” الموجز بالإهانة ” يُلاحظ الكاتب والشاعر الفرنسي برنار نويل (1930ـ 1921) وجود نوعين من الرقابة: الأول هو الرقابة على الكلمة Censure والثاني الرقابة على المعنى Sensure .

 

ويرى أنَّ الغرب عموماً انتقل من الحذف المادي للكلمات إلى تغييب معناها “عبرَ خلطِ الأفكارِ والأخبارِ والإكثارِ منها بشكلٍ يجعلُ الكلمات تفقدُ دلالاتها”.

 

هذا النوع من الرقابة يعتبره نويل اشدّ أشكال العنف الذي تمارسهُ الدولة بحجةِ حمايةِ المصلحةِ العامة، لينتهي نويل إلى تبني ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي أوغست بلانكي (1805ـ 1881)

 

حين قال” يمكن لأمةٍ أنْ تتسامحَ مع من يقمعها باستخدام العبودية، السجون، التعذيب، البؤس، الجوع ، المصائب، الآلام، وكل أشكال العنف.. لكن لا يمكن أنْ تتسامحَ مع من يعتدي على عقلها، ويخنق ذكائها فهذا جرم غير قابل للعفو”.

 

برأينا، لا ترضعُ الأفكارُ حليب الظلام إلا إذا كان ممنوعاً عليها الاستحمامَ في النور، النور يُطهّر الأفكار بتعريضها لنارِ النقدِ، و رياحِ الحوارِ.

 

و منْ ثمّ لمبضعِ القانون، هذا النور اسمهُ “حرية التعبير” التي تمنحُ الجميعَ الحقَّ بمناقشةِ الأفكارِ وتثميرها وصولاً لاستئصال السامِّ منها

 

وذلك قبلَ أنْ يقوم أصحابها باستئصالِ كل من لا يشاركهم إياها، حريّة التعبير هي الطبيبُ الذي يشخصُ أمراضَ العقائدِ وانحرافاتها.

 

فالعقائد ـ وطنية أم دينية ـ تمرض و تنحرف وهذا أمر طبيعي ، لكنَّ الشّاذ هو إجبارُ العقولِ على الاعتقاد بأنَّ هذا الانحراف غير موجود لمجردِ منعِ من يمتلكون شجاعة العقل من الإشارة إليهِ بغيةَ معالجته.

 

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

مقالات ذات صلة