تشير التقارير الأممية إلى أن تلبية الاحتياجات الأساسية للسوريين تتطلب تمويلا قُدّر في السنة الحالية بأكثر من مليار و30 مليون دولار.
وتقدر اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن 14 مليونا و600 ألف شخص في سوريا يحتاجون للمساعدة، وأن 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر.
وتؤكد أرقام المنظمات الدولية ما أوردته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إذ أفاد تقرير برنامج الغذاء العالمي بأن 12 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينهم 2,5 مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد.
وفي ظل الأوضاع المعيشية والاقتصادية القاسية هذه، تشكل التحويلات المالية للمغتربين السوريين في الخارج الملاذ الوحيد لآلاف العائلات السورية التي تقطعت أمامها سبل الحياة.
وتكتسب هذه التحويلات يوما بعد يوم أهمية قصوى في ظل انعدام البدائل الأخرى وتردي الأوضاع الاقتصادية وتدهور قيمة العملة الوطنية والارتفاع الهائل والمستمر في الأسعار.
تجريم التعامل بالعملة الأجنبية
مع ذلك فإن عملية التحويل برمتها يكتنفها الخطر الشديد على مرسلي الحوالات المالية وأهاليهم فيما لو قرروا إرسال أو استلام الحوالات بطرق غير نظامية للانتفاع من قيمتها كاملة، بعيدا عن أقنية الدولة التي تمنع وتعاقب على تداول العملات الأجنبية، وتقتطع بالمقابل نسبة معتبرة من قيمة الحوالات، يجد معظم السوريين أنهم أحق بها في ظل الظروف الحالية.
وفي شباط/فبراير الماضي، صدر مرسومان جمهوريان في سوريا يمنعان تداول العملات الأجنبية في المعاملات والدفع، ويشددان الرقابة على السوق السوداء والعاملين في الصرافة والتحويلات المالية.
وأكد المرسوم التشريعي رقم 5 للعام 2024 على منع التعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للدفع أو لأي نوع من أنواع التداول التجاري، وحافظ على العقوبات المتعلقة بالحبس أو السجن، لكنه أتاح للمدعى عليهم التسوية أمام القضاء، لتسقط عنهم عقوبة الحبس أو السجن التي قد تصل في بعض الحالات إلى أكثر من 7 سنوات.
وبشأن الصرافة وتحويل الأموال، أظهر المرسوم رقم (6) للعام 2024 تشددا في عقوبات من يزاول مهنة الصرافة دون ترخيص، ومن يقوم بنقل أو تحويل العملات الأجنبية أو الوطنية بين سوريا والخارج دون ترخيص.
ويعاقب المرسوم على ذلك بالسجن المؤقت من 5 سنوات إلى 15 سنة، وبغرامة مقدارها 3 أمثال المبالغ المصادرة، ومصادرة المبالغ المضبوطة نقدا.
كيف يتحايل السوريون؟
وفقا لشهادات العديد من الأشخاص، فإن عملية استلام حوالة مالية خارجية بعيدا عن الأقنية النظامية للدولة، محفوفة بالمخاطر، وتتم بسرية.
ويشرح أحد الوسطاء، ممن يعملون في تحويل الأموال الواردة من الخارج متخفيا وراء مهنة وسيط عقاري في إحدى ضواحي دمشق، طريقة إيصال الحوالة، فيقول: يتفق الطرفان “الوسيط والمستفيد من الحوالة” على مكان وزمان تسليم واستلام “الأمانة”، ومن الأفضل أن يكون في شارع عام.
ويتابع: يسيران معا وكأنهما يعرفان بعضهما دون أن يلفتا الانتباه، ليخرج الوسيط ما بجعبته، ويطلب من المستلم أن يفتح حقيبته ليدس المبلغ بداخلها بسرعة، وبعد ذلك يفترق الشخصان وكأنهما لم يلتقيا، بحسب ما كشفه لـ”إرم نيوز”.
والخطورة في عملية التحويل لا تكمن فيما يمكن أن تجلبه من عقوبات داخل سوريا فقط، فالسوريون في الخارج معرضون أيضا للملاحقة القانونية إذا ما ضبطوا وهم يحولون الأموال بهذه الطريقة، وخاصة في الدول الأوروبية.
ويلخص أحد الأشخاص، ممن يعمل في تحويل الأموال من ألمانيا العملية عبر السوق السوداء بالقول: “الأمر يتم عبر شبكة كبيرة من الأشخاص، تضم ما بين 40 و 50 شخصا في مختلف بلدان العالم، وهناك رأس للمجموعة يتم التواصل والتنظيم بين الجميع من خلاله”.
ويتابع: “كما يتم التواصل عبر تطبيق واتساب حصرا لأنه مشفر وتصعب مراقبته”.
ويضيف: عندما تتجمع الأموال هنا في ألمانيا مثلا أو أي بلد آخر، تخرج عن طريق التجار.
ويشرح الآلية التي يعتمدها التجار فيقول: “عندما يأتي التاجر إلى بلد ما لشراء بضاعة أو شحنة، لا يضطر لإحضار الأموال معه والتعرض لأي مساءلة قانونية من السلطات، حيث نسلمه نحن هنا الأموال التي تجمعت لدينا من حوالات الناس باليورو، ليشتري بضائعه”.
ويضيف: يشتري التاجر بضائعه بلا أي عناء في حمل الأموال معه خلال السفر، ويقوم بدوره بتسليم الأموال للسوريين في الداخل بالليرة السورية بقيمة تعادل ما أرسله لهم ذووهم باليورو أو الدولار أو غيرها.
وثمة طريقة أخرى يعتمدها السوريون لإرسال الأموال إلى ذويهم، وفقا لشهادات أشخاص جربوها من قبل، وهي إرسال الحوالات إلى حساب بعض الشركات العاملة في مصر أو تركيا أو الأردن أو لبنان، ويتم استلامها وتحويل إرسالها إلى الداخل السوري، وذلك لقاء عمولات تتراوح بين 2-5 %.
حجم التحويلات المالية
تقدّر بعض الدراسات التابعة للبنك الدولي، قيمة التحويلات المالية السنوية إلى سوريا بنحو 1,62 مليار دولار.
وأشارت بعض التقارير إلى أن المبالغ اليومية التي يتم تحويلها إلى سوريا تتراوح بين 5 و7 ملايين دولار.
فيما نقلت وسائل إعلام محلية عن أحد المسؤولين في شركة لتحويل الأموال قوله قبل أيام، إن قيمة الحوالات الخارجية الواردة يوميا للبلاد ارتفعت إلى أكثر من 13 مليون دولار خلال شهر رمضان، من نحو ستة إلى سبعة ملايين دولار في الأشهر الأخرى.
ويُقدَّر عدد المستفيدين من هذه التحويلات بأكثر من خمسة ملايين نسمة موزعين على مختلف مناطق البلاد.
وعن أكثر الدول التي يتلقى منها السوريون تحويلات مالية، أشار مصدر في شركة تحويل أموال بدمشق إلى العراق والإمارات وألمانيا والسويد وتركيا، بالإضافة إلى دول أوروبية أخرى.
المورد الأساس للخزينة السورية
لا تفيد التحويلات المالية أهالي المغتربين فحسب، بل ترفد خزينة الدولة بالقطع الأجنبي، في وقت تعاني فيه البلاد نفاد مصادر الحصول عليه نتيجة العقوبات الغربية على أغلب القطاعات الحيوية، وفقدانها السيطرة على مناطق وجود النفط.
لكن خبراء يجادلون في قرارات المصرف المركزي السوري فيما يتعلق بالحوالات الخارجية.
الخبير المصرفي السوري عامر شهدا، يقر بأنه في ظل شح موارد القطع بالنسبة للخزينة العامة باتت الحوالات الخارجية هي المورد الأساس للخزينة السورية.
ويكشف أن 5 دول أوروبية فقط تضم ما يقرب من مليون و400 ألف عامل سوري بين كادر مؤهل علميا وكادر مهني.
ويقول “إذا افترضنا أن كل واحد من هؤلاء يحول 100 يورو شهريا فقط، سيكون لدينا 140 مليون يورو شهريا يجب أن تصل إلى سوريا”.
وفقا لهذه التقديرات، فإن هذا الرقم يساوي أكثر من مليار ونصف المليار يورو سنويا، وهذا فقط من 5 دول أوروبية، ما يعني أن رقما مماثلا على الأقل يدخل من دول الخليج والعراق والأردن وتركيا.
ويعبّر شهدا عن أسفه لأن ما يصل من هذه التحويلات إلى خزينة الدولة السورية لا يصل حتى إلى 10٪ “على اعتبار أن تجار القطع هم من يضعون يدهم على هذه الحوالات، وهم من يفتحون مكاتب خارجية للحوالات من أجل استقبالها”.
ويوضح: “بالتالي، فإن معظم الحوالات تستقر في حسابات التجار، ليتم استخدامها في عمليات الصرف فيما يدخل بعضها الآخر في بيع العقارات بالدولار، لتبقى القيمة خارج سوريا”.
من جهته، الخبير الاقتصادي السوري، جورج خزام يعتقد أن ثمة سباقا بين المصرف المركزي والسوق السوداء للفوز بالحصة الكبرى من الحوالات الخارجية بالدولار، والفائز كما يقول هو من يدفع السعر الأعلى.
ويوضح خزام أن أي رفع لسعر صرف الحوالات الخارجية من المصرف المركزي سوف يؤدي لتوجه الحوالات من السوق السوداء إلى المصرف المركزي.
ويشير إلى ان هذا يعني تراجعا في كمية الدولار المعروض للبيع بالسوق السوداء، ما يؤدي بالتالي إلى ارتفاع مستمر بسعر الدولار، وهذا ما يحصل بشكل مستمر، حتى قارب سعر الدولار 15 ألف ليرة، ما ينعكس بشكل سلبي على المواطن السوري.
بدوره، الخبير المصرفي عامر شهدا يرى أن إجراءات مصرف سوريا المركزي عبر رفع السعر “غير صحيحة”.
لكن وزيرة الاقتصاد السورية السابقة لمياء عاصي تؤكد أن ما يصل اليوم إلى خزينة الدولة هو أكثر بكثير.
وتقول: “خلال السنوات الماضية عندما كان الفرق كبيرا بين السعر الرسمي حسب جداول المركزي السوري والسوق السوداء، كانت القنوات غير النظامية تحظى بنصيب كبير وكانت نسبة كبيرة تفوق 90% من التحويلات تتم عبر القنوات غير النظامية بالرغم من العقوبات الشديدة”، بحسب تصريحاتها لـ “إرم نيوز”.
وتشير الوزيرة السابقة إلى أنه في الثاني من شباط/فبراير من العام الماضي، 2023، ونتيجة لتعديل سعر الحوالات الذي أقره البنك المركزي وجعله قريبا من سعر السوق السوداء، أضحت نسبة عالية من الحوالات تتجاوز 70% تدخل عبر القنوات الرسمية.
الوزيرة عاصي تلفت إلى الأهمية الكبرى للتحويلات الخارجية، موضحة أنها تشكل اليوم المورد الأهم للاقتصاد الوطني، وخاصة بعد أن تضاءلت الموارد الأخرى من العملات الصعبة، سواء من التصدير أو النفط أو المؤسسات العامة، فهي “المورد الدولاري الأساس لتمويل الاستيراد”، على حد قولها.
وتسهم التحويلات الخارجية، وفقا لعاصي، إلى جانب تمويل المستوردات، في استيراد معظم الأجهزة اللازمة لتشغيل البنية التحتية، مثل: محطات توليد ونقل الكهرباء وكل ما يستخدم في الصناعات الاستخراجية والتحويلية.
كيف يستفيد الاقتصاد السوري؟
الخبير جورج خزام يعتقد أن القيمة الحقيقية للدولار أقل بكثير من قيمته السوقية المتداولة بالمصرف المركزي والسوق السوداء. ويقول إن السبب هو تجريم التعامل بالدولار.
ويرى أن ما يعطي للممنوعات قيمة أكبر من قيمتها الحقيقية هو منع تداولها، إذ إن قيمتها الحقيقية غير مكشوفة بسبب احتكار بعض الصرافين للدولار في الداخل السوري وفي الخارج لرفع سعره وتحقيق أرباح على حساب انهيار الليرة السورية.
ويقترح خزام تسليم نصف الحوالات الخارجية بالدولار لأصحابها كأحد “الحلول المنطقية” لزيادة العرض بالدولار بالسوق السوداء وتخفيض سعره.
أما وزيرة الاقتصاد السورية السابقة لمياء عاصي فترى أن الطريقة المثلى والوحيدة لكي تصب الحوالات الخارجية في القنوات الرسمية هي الاعتماد على سياسة نقدية أكثر مرونة سواء بالنسبة للتسعير أو العملة التي تسلم بها الحوالات.
وتشير إلى أن القنوات الرسمية أكثر أمانا بالنسبة للمواطن المتلقي للحوالة أو المرسل، لكن فارق السعر بالدرجة الأولى وإمكانية القنوات غير الرسمية تسليم الحوالات بعملة التحويل ذاتها هما ما يمنع ذلك.
وتؤكد أنه إذا استطاع البنك المركزي حل هاتين المشكلتين فإنه سيتمكن من اجتذاب كل التحويلات الخارجية.