مازن بلال
طرحت حرب غزة على المستوى الإقليمي مسألة أساسية حول الوجود “الإسرائيلي”، فالمعارك الطويلة أنهت فكرة انهيار الكيان بذاته نتيجة الاستنزاف الطويل، وقدرته على الاستمرار تشير إلى ضرورة استراتيجية بالنسبة للتشكيل الدولي الذي لا يدافع عنه فقط بل يترك له مساحة واسعة لممارسة عمليات القتل الممنهج، وفي المقابل فإن بنية “إسرائيل” في المعارك تطرح صورة غير مألوفة لنا، فهناك تعبئة لـ”الكراهية” كانت غائبة تحت كم من الإعلام الذي طفى على السطح في ما يزيد على ثلاثة عقود، وقدم صورة لعملية سلام متعثرة تواجه تطرفا يعرقل إنجازها.
امتداد الحرب ما يزيد على عام ربما لا يطرح قوة “إسرائيل” ولكنه في الوقت نفسه لا يثبت هشاشتها، فهناك معادلة مختلفة ظهرت نتيجة التحولات الطويلة على المستوى الإقليمي وليس فقط على مستوى “الداخل الإسرائيلي”، ويمكن هنا ملاحظة أمرين أساسيين:
الأول أن “إسرائيل” التي أسستها نخب يسارية استناداً إلى “جمهور يهودي” عريض لم تعد كما نعرفها طوال النصف الثاني من القرن العشرين، فالتنوع السياسي الذي كانت تتباهى به تحول إلى “تنوع” في الطيف الديني الذي يقود اليوم الحروب بمقاييس مختلفة عن السابق.
الأمر الثاني مرتبط بالبيئة الإقليمية التي ترى في “إسرائيل” نقطة توازن في تناقضات شرقي المتوسط، ففلسطين لم تسقط فقط من الشعارات العربية بل أصبحت “إسرائيل” جزءاً من التصورات الإقليمية عموما، وربما مرتبطة بمساحات التنمية التي تحلم بها بعض الدول.
منذ تأسيس “إسرائيل” كانت مسألة الخطر الذي تسببه على الأمن الإقليمي لا يملك أبعادا متساوية عن دول الإقليم كافة، فمستوى العداء اعتمد بالدرجة الأولى على “الخطر الجغرافي”، وهو ما جعل عدداً من الدول البعيدة نسبيا لا ترى خطرا من بقاء “إسرائيل”، لكن اتفاقيات السلام التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي طرحت معادلة مختلفة، فالصراع هو أكثر من مسألة الاقتتال على الجغرافيا، لأنه يعتمد على “النفوذ” فوق هذه الجغرافيا، فإخراج بعض الدول من معادلة الصراع كان في النهاية تبديلا في البعد “الجيوستراتيجي” للمنطقة، لأنه أزاح دولاً وأدخل دولاً جديدة إلى مساحة النفوذ في هذا الصراع.
تبدو الصورة اليوم غربية عن بداية الصراع العربي – الإسرائيلي، فالجغرافيا باقية في هذا الموضوع لكنها لا ترتبط بالمحيط الخاص بـ”إسرائيل”، كما أن نوعية الخطر تبدلت أيضا على الأقل بنظر الدول البعيدة نسبيا عن المعارك، لكنها أصبحت في دائرة خطر آخر مرتبط بتبدل النفوذ لدول المنطقة، وخصوصاً إيران وتركيا اللتان ملأتا الفراغ السياسي داخل الصراع، وإذا كانت طهران قادرة على إنشاء منظومة إقليمية فإن تركيا أنشأت نفوذها الخاص بأدوارها المتعددة وخصوصاً في حوض المتوسط.
الصراع اليوم مركب وهو نتيجة عدم قدرة محيط “إسرائيل” الجغرافي على إنتاج نظامه الخاص في مواجهة الخطر الذي تمثله ليس النخبة الحاكمة في تل أبيب بل بنية الكيان بذاته التي باتت قادرة على استغلال كل الخلل الإقليمي كي تستمر في فرض هيمنتها بقوة الدمار.