نضال الخضري
في رواية اللجوء السوري فصل مختلف تتم كتابته في تركيا، فعلى إيقاع مؤشرات سياسية غير واضحة وتقارير لتقارب بين دمشق وأنقرة اندلع العنف، واستهلك ما تبقى من أحلام لأشخاص بنوا جزءاً من واقعهم على أرض غريبة، والحدث الذي استند إلى سردية مبهمة تكررت مرات عدة في لبنان، وهناك ملامح له أيضاً في مصر، وفي جغرافيا العالم كله سنجد سردية غامضة تؤجج عنفاً أحمق، وتحمل معها نهاية لرحلة اللجوء المستمرة منذ سنوات.
نادراً ما يكون السوري مغترباً، فهو معتاد التنوع الثقافي والأثني، وليس مضطراً لانتظار جيل جديد حتى يحقق الاندماج، فهناك مرونة سورية تسحق الغربة، وتعيد رسم الشتات كبداية جديدة، فالسوري هو من أوجد البدايات على المستوى الشخصي، وهو يحمل إرثاً من التحولات الحدية التي جعلت تصورات الاستقرار والاستمرار مبهمة لأبعد الحدود.
اللجوء السوري يفقد سمته بعد أشهر عدة، ويصبح واقعاً على مستوى التفكير، وسواء كان اللاجئ في مخيم أم في شوارع المدن الكبرى فإنه يضع “انتمائه” في خفايا الذاكرة ويبدأ رحلة البقاء، ولا يختلف الأمر في تركيا التي كانت منذ الأزل خط تماس سكاني قبل أن تصبح العصبية القومية سلسلة أحقاد، وقبل أن يصبح السوري تائهاً في مساحات مجهولة.
المشكلة أن المرونة في الانتماء تخلق تصورات مبهمة عن كل شيء، فالسوري نادراً ما يختار إقامته في العالم، وسواء تعلق الأمر بالهجرة في زمن “السفر برلك”، أو بالهروب من الحرب الأخيرة فإنه يحط رحاله حيث يستطيع الحفاظ على بقائه، وتركيا لم تكن خياراً بل حالة سياسية فرضت نفسها بالقوة وأجبرت الكثيرين على الانتقال نحوها، وبقيت تصوراً مبهماً لأنها جبهة صراع أرادت في البداية امتلاك ورقة اللاجئين.
لا يختلف الأمر كثيرا في لبنان، فالمخيمات كانت جاهزة قبل أن يحاول أي شخص العبور نحو لبنان، وكاميرات التلفزة منذ الأيام الأولى للأزمة تعمدت رصد المعابر لتصوير واقع خاص في سوريا، وفي النهاية كان الخيار بالعبور متأخراً كثيراً لكنه بقي ضمن التصورات المبهمة لبلد لجوء مؤقت، لكنه تحول لأنواع من التشرد تختلف عن تركيا وتتشابه مع الأردن.
الشتات السوري هو رواية من الطلاسم، وربما من السرديات المكتوبة سابقاً، لأنه لا يحمل أحلاماً فقط بل إرثاً من الانتشار المتكرر كلما لاحت في الأفق تحولات جديدة، وإذا كانت أحداث تركيا تحت رقابة الإعلام فإن أحداث أخرى تجري يومياً لكنها في الظل بانتظار مناسبة سياسية كي تصبح جزءاً من مسيرة سورية طويلة، وربما يحمل أي سوري مسألة “اللجوء” مكرهاً لأنه لم يعتد التفكير بأنه غريب في موقع يعيشه، أو أنه يرسم اللجوء بوصفها حالة فارقة لقدرته على التعايش مع الغموض كله الذي يلف مستقبله.
في تركيا صور يجب أن توثق بوصفها جزءاً من التاريخ السوري؛ ليست بصفتها حالة اغتراب بل بوصفها ظاهرة متكررة وتكون ثقافة على مر الزمن، فما حدث ليس لجوءاً ولا اغتراباً ولا حتى خياراً وسط الحرب الطاحنة، إنما ملامح على تصور الذات والبقاء ضمن “حالة العالمية” التي وسمت السوري منذ فجر التاريخ.