الأحد, فبراير 23, 2025
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةأخبارثقافة الحوار.. إقصاء الإقصاء

ثقافة الحوار.. إقصاء الإقصاء

هاشتاغ – رأي د. تيسير حسون

بعد شهرين من سقوط نظام الأسد، تقف سوريا عند مفترق طرق حاسم. لم يعد السؤال يدور حول إسقاط النظام، بل حول كيفية بناء مجتمع قادر على تجاوز إرث القمع والاستبداد دون أن يعيد إنتاجه بصيغ جديدة.

 في هذه المرحلة الحرجة، تبرز الحاجة الملحّة إلى تبنّي ثقافة الحوار بدلاً من ثقافة الإقصاء، والاستماع بدلاً من التخوين، والانفتاح على إعادة التفكير بدلاً من الجمود على المواقف السابقة.

خلال سنوات الحرب والقمع، لم يكن الاختلاف في الرأي مجرد تباين فكري، بل كان مسألة حياة أو موت. في ظل تلك الظروف، كان من الطبيعي أن يتمترس السوريون داخل قناعاتهم، مدفوعين بالخوف أو الحاجة إلى الانتماء. واليوم، بعد زوال النظام الذي أسس لهذه العقلية، يبقى التحدي الأكبر: هل سنتمسك بعقلية “معي أو ضدي”، أم أننا سنؤسس لثقافة جديدة تحترم التنوع وتقبل بالتعددية؟

لماذا تفشل ثقافة الإقصاء في تحقيق التغيير؟

يُظهر علم النفس الاجتماعي أن محاولات تغيير قناعات الآخرين بالقوة أو العزل غالبا ما تؤدي إلى نتائج عكسية. عندما يُواجه الأشخاص تهديدا لهويتهم أو انتمائهم، فإنهم يميلون إلى التمسك بمواقفهم بدلاً من إعادة النظر فيها. هذه الظاهرة، المعروفة باسم “التحيز التأكيدي”، تعني أن مواجهة الآخرين بالحقائق وحدها لا تكفي لإقناعهم، بل قد تزيد من تمسكهم بمواقفهم الأصلية.

من هنا، فإن الإصرار على شيطنة كل من كان مؤيدا للنظام أو حتى محايدا، ومحاولة عزله عن المشهد الجديد، لا يؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات. فبدلاً من أن يشعر هؤلاء بأن سوريا الجديدة ترحب بهم، سيدفعهم الإقصاء إلى البحث عن هويات بديلة أو حتى التمسك بمواقفهم السابقة كنوع من الدفاع عن الذات.

كيف يمكننا بناء حوار صحي في سوريا الجديدة؟

1. الاستماع قبل الإقناع

بدلاً من محاولة فرض الرؤى الجديدة على الجميع، علينا أن نستمع إلى مخاوفهم وتساؤلاتهم. عندما يعارض شخص محاسبة واسعة النطاق لرموز النظام، قد لا يكون ذلك بسبب تعاطفه معهم، بل خوفا من الفوضى أو من أن تتحول العدالة إلى انتقام. الحوار الحقيقي يبدأ بالسؤال: “ما الذي تخشاه؟ وكيف يمكن تحقيق العدالة دون أن تتحول إلى تصفية حسابات؟”

2. الاعتراف بتعقيد التجربة السورية

الحرب لم تكن تجربة موحدة للجميع. بعض السوريين عاشوا تحت قصف النظام، وآخرون تحت حكم جماعات متطرفة، وغيرهم وجدوا أنفسهم عالقين في مناطق لم يكن لديهم خيار في البقاء فيها. علينا أن ندرك أن فهم هذه الفروقات ضروري لبناء مستقبل مشترك، وأن تصنيف الناس بناءً على أماكن إقامتهم أو مواقفهم السابقة لا يساعد في تحقيق المصالحة.

3. خلق مساحة آمنة للتعبير عن التغيير

هناك كثيرون ممن دعموا النظام سابقا، لكنهم بدأوا اليوم في إعادة تقييم مواقفهم. ومع ذلك، فإن خوفهم من العزلة أو الإقصاء يمنعهم من التعبير عن ذلك علنا. إذا كنا نريد مجتمعا صحيا، فعلينا أن نسمح للناس بتغيير آرائهم دون أن يكون الثمن هو النبذ الكامل.

4. التفريق بين العدالة والانتقام

المحاسبة ضرورية، لكنها لا تعني الإقصاء الكامل لكل من كان جزءا من النظام السابق. علينا أن نفرّق بين المسؤولين عن الجرائم الكبرى، وبين أولئك الذين تورطوا في النظام بدافع الخوف أو الضرورة. فكما أن المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب، فإن العدالة لا تعني اجتثاث كل من كان له ارتباط بالنظام.

5. بناء الهوية السورية على التعددية لا على الإقصاء

سوريا ما بعد الأسد ليست ملكا لفصيل سياسي أو فكري معين، بل هي للجميع. علينا أن نخلق هوية وطنية جديدة قادرة على استيعاب التنوع، حيث لا يشعر أحد بأنه مهدد أو مستبعد. هذا يتطلب تجاوز الرغبة في “الانتصار المطلق” إلى بناء مجتمع يتّسع للجميع.

هل نريد أن نقنع الآخرين، أم أن نثبت أننا على حق؟

في أي نقاش سياسي، هناك خياران: إما أن نحاول فهم الشخص الذي أمامنا، أو أن نحاول إلحاق الهزيمة به. إذا كان الهدف هو بناء سوريا الجديدة، فإن الانتصار في الجدال ليس أكثر أهمية من بناء الجسور بين السوريين.

يقول جون كينيث غالبريث: “عندما يُوضع الناس أمام خيارين: إما تغيير رأيهم أو إثبات عدم حاجتهم إلى تغييره، سينشغل معظمهم بإثبات صحة رأيهم.”

التغيير لا يحدث بإجبار الآخرين على تبنّي وجهات نظرنا، بل بمنحهم الفرصة للتفكير وإعادة تقييم مواقفهم بأنفسهم. وكما تُظهر الأبحاث، فإن الأشخاص يكونون أكثر استعدادا للتغيير عندما يُتاح لهم الفضاء للتعبير عن مخاوفهم وقناعاتهم، بدلاً من أن يُملى عليهم ما يجب أن يفكروا به.

نحو سوريا جديدة.. الحوار كطريق للخلاص

سوريا بعد الأسد ليست مجرد تغيير في السلطة، بل تغيير في طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع بعضنا البعض. إذا استمررنا في عقلية الإقصاء، فلن يكون هناك فرق جوهري بين الماضي والمستقبل.

في النهاية، نحن بحاجة إلى شجاعة من نوع جديد: شجاعة الاستماع إلى من نختلف معهم. شجاعة الاعتراف بأخطائنا كما نطالب الآخرين بالاعتراف بأخطائهم. شجاعة بناء مساحة آمنة للتغيير بدلاً من فرضه بالقوة.

إذا كان النظام قد سقط، فلماذا تبقى ثقافته حاضرة في طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض؟

سوريا الجديدة لن تُبنى على تصفية الحسابات، بل على القدرة على الاختلاف دون تخوين، وعلى إعادة التفكير دون خوف، وعلى منح الجميع فرصة ليكونوا جزءا من المستقبل، لا مجرد عالقين في الماضي.

مقالات ذات صلة