هاشتاغ-نضال الخضري
على أطراف غزة ينتهي العالم المعتاد وندخل في زمن آخر لم يصفه أحد رغم كل الصور المرعبة، فهو مجال آخر يبتعد كثيرا عن الصراع أو “البطولة” أو غيرها من المصطلحات؛ لأنه اختناق ثقافي تتلاشى فيه كل أساليب التفكير منذ “عصر التنوير” الأوروبي وحتى اللحظة الحاضرة، فآلة الحرب التي تدمر غزة تجعلها مساحة مفتوحة لكتابة تاريخ الحضارة من جديد، وتكشف سلسلة من “الزيف” الذي يغلف الجميع وهم يشاهدون الموت برهبة وصمت ووجل.
تفسير الحرب القائمة اليوم لا يمكن أن يتم دون كسر خوفنا من مواجهة كل تاريخ التناقض مع “إسرائيل”، فهذا التاريخ “المأزوم” يمتزج بأشكال من التبرير واختلاق سرديات همها الوحيد تفسير “السياسة”، أو جعل الحروب حالة من قراءة الآخر، بينما تكشف حرب غزة أن كل المساحات التي تعرفنا عليها في الحروب ليست سوى أشكال طارئة، ثم ظهرت على مساحة جديدة من استنفار العالم الذي يتلهى بأشكال الموت، ويستهلك الساعات بانتظار انتهاء المجازر.
أقرأ المزيد: اعتراض في الفراغ
في غزة أكثر من “قضايا الحرب” لأن الموت يُعري فهمنا للآخر الذي رسمنا على شاكلته، فصورنا متجاوزا كل العلاقات المتراكمة داخلنا من آلاف السنين، وظهر في حرب غزة في مواجهة لتصفية ما تبقى من مسارات معلقة، فلا قضية الأسرى تلخص ما يجري، ولا “حل الدولتين” يمكنه أن ينهي “اختناق الثقافة” داخلنا، وحتى لو وقف العالم غاضبا فإن ما يحدث في غزة لن يتوقف حتى ولو أنهت “إسرائيل” مجازرها.
نتعلم من هذه الحرب أن الغضب يتبعثر، وعشوائية الدفاع عن النفس تتلاشى طالما بقي “الاختناق الثقافي” شكلا تتوارثه الأجيال، فكلما “استنسخنا” تجارب الآخرين فإنا سنبقى في مسارات لا تمنحنا صورة تقف أمام “المجازر”، ولن تجعل الموت الذي يطوف بيننا سوى ظاهرة في مساحة العالم الذي يحشد الجيوش، ويحولنا إلى “مشاهد” تعرض في تغطية خاصة على محطات التلفزة.
أقرأ المزيد: وهم لصور الحرب
كل الجثامين لم تكن كافية للتعرف على “الخفة” التي تقدمنا للعالم كـ”ضحايا” أو “قتلة” محشورون في مكان واحد، فهناك عالم يرانا من زوايا الكاميرات التي ترصد لحظات الدمار والموت، ثم يحلل ويفسر ما يحدث ويختلف في تحديد الجاني والضحية ويترك الحدث يسير على “إيقاع إسرائيلي” أو “أوروبي” أو “أمريكي”، بينما “إيقاعنا” هو مجرد أوهام نسردها ابتداء من “الصمود” وانتهاء بمخاطية “المجتمع الدولي”…
هل كان علينا الاستيقاظ فجأة على “حرب غزة”؟! ربما تفاجأنا بسرعة الموت رغم أننا نعرف هذا اللون الذي ضرب العراق مسبقا، وامتد نحو سوريا لاحقا، لكنه في غزة هو اختصار لكل الأزمنة التي تقدم لنا “الاختناق الثقافي” كحالة تجعلنا مجرد “حدث” أمام “الآخر” الذي يواسي “إسرائيل” وهو يشاهد موتنا بدم بارد.
لم يكن علينا انتظار “طوفان الأقصى” حتى نعرف مساحاتنا المهمشة في العالم، وسواء قامت “حماس” بعمل عسكري أو لم تمارس هذا الفعل فنحن كنا في انعدام “الوزن الثقافي” داخل عالم ينظر إلينا كـ”نهاية التاريخ”، ويحاربنا على أننا جزء من أوهام الماضي، وغزة هي خلاصة لصورة مازلت تخنقنا وتبقينا في دائرة “الآخر” الذي لا يرانا إلا كحدث ربما يهز العالم ثم ينته.