تؤكد الحرب المستمرة على جبهة لبنان أن الصراع بين “حزب الله” و”إسرائيل” قد تجاوز حدود المناوشات المعتادة، وأصبح مواجهة شاملة تحمل في طياتها تبعات اقتصادية وعسكرية واجتماعية بعيدة المدى.
ومع تصاعد الخسائر، وتراجع “إسرائيل” عن بعض أهدافها المعلنة، يبدو أن هذه الحرب ستستمر في التأثير على التوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة، وقد تدفع “إسرائيل” لإعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية في الشمال ومراجعة سياساتها تجاه حزب الله.
ففي الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أطلق “حزب الله” أول صواريخه نحو “إسرائيل”، معلناً انضمامه إلى ما سمّاه “معركة الإسناد” لدعم جبهة غزة، التي كانت قد اشتعلت قبلها بيوم واحد.
وبدأت هذه المواجهات بعمليات حذرة وتصعيد محدود من الطرفين، لكن، بعد مرور عام، تحولت جبهة لبنان إلى حرب مفتوحة على الأرض وفي الجو، حيث يواصل الطرفان التصعيد في غياب أفق سياسي واضح للحل.
وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “مأجار موحوت” الإسرائيلية أن سكان شمال “إسرائيل”، الذين أُجبروا على مغادرة مستوطناتهم، لا يشعرون بالثقة في قدرة الجيش الإسرائيلي على حماية المنطقة، حيث أعرب 70% من الذين تم إجلاؤهم عن عدم رغبتهم في العودة حتى لو توقفت الحرب الآن.
خسارة “إسرائيل” في منطقة الجليل
مع مرور عام على المواجهة في جبهة لبنان، فقدت “إسرائيل” موقعها الاستراتيجي في منطقة الجليل شمالاً، والتي كانت تمثل رمزاً للتراث الصهيوني ومرتكزاً أمنياً منذ عقود.
ويُعد الجليل منطقة مرتفعات تمنح أفضلية ميدانية، وقد استفادت إسرائيل” منها لإنشاء قواعد عسكرية ومراكز مراقبة، إلا أن الحرب الحالية أجبرت الحكومة الإسرائيلية على إخلاء نحو 28 مستوطنة في الجليل، وتحولت المنطقة إلى ساحة مكشوفة تتعرض لضربات مستمرة من حزب الله.
واستهدف حزب الله خلال العام الماضي العديد من المنشآت الحيوية، بما فيها مقر الاستخبارات الإسرائيلية في صفد ومقر لواء “غولاني” التابع للجيش، وهو لواء النخبة الذي يقود العمليات البرية في جنوب لبنان.
وتشير المصادر إلى أن هذا التصعيد المستمر قد أضر بسمعة الجيش الإسرائيلي الأمنية، حيث تكبدت المنشآت العسكرية خسائر فادحة وأصبحت تحت التهديد المستمر.
الجيش الإسرائيلي يفقد هيبته
أدت الحرب المستمرة مع حزب الله إلى تغيير عميق في العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي، الذي اعتاد على خوض “حروب خاطفة” تعتمد على التفوق التكنولوجي والاستخباري لتحقيق أهداف سريعة.
ومع تحول الحرب إلى صراع طويل الأمد، اضطرت “إسرائيل” لإعادة تقييم استراتيجياتها، خاصة في ظل فشل ثلاثية الدفاع القائمة على المساحات الآمنة، وفاعلية نظم اعتراض القذائف، وقدرة المستوطنين على الصمود.
ولم تكتفِ الحرب بتحدي عقيدة الجيش فقط، بل أظهرت محدودية قدرة “إسرائيل” على الاستجابة لتحديات الحدود الشمالية، حيث أن تكرار الضربات على المستوطنات جعل منطقة الجليل منطقة شبه خالية من السكان.
نزيف في الأرواح والمعدات الإسرائيلية
منذ أن بدأت “إسرائيل” العملية البرية في جنوب لبنان في 30 أيلول/ سبتمبر الماضي، تكبد جيشها خسائر غير مسبوقة، حيث قُتل 95 جندياً وأصيب أكثر من 750 بين ضباط وجنود.
إضافةً إلى ذلك، دُمرت 38 دبابة “ميركافا” وسقطت أربع طائرات مسيرة إسرائيلية عالية التقنية من طراز “هيرميس 450″ و”هيرميس 900”.
ولم تقتصر الخسائر على الجبهة الأمامية، فالجبهة الداخلية الإسرائيلية تعرضت أيضاً لقصف متواصل، ما أدى إلى تكاليف باهظة في الأرواح والممتلكات، في ظل رقابة عسكرية تمنع الإفصاح عن الأرقام الدقيقة.
وأفاد مركز إعادة التأهيل في “إسرائيل” بأن 12 ألف عسكري قد استقبلوا للعلاج منذ بداية الحرب، من بينهم 1500 أصيبوا أكثر من مرة.
وبالرغم من تلك الخسائر، لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق تقدم ملموس على الحدود اللبنانية، ولم يسيطر على قرية واحدة بالكامل، مما يجعل التكلفة الباهظة لهذه الحرب أكثر وضوحاً مقارنة بالنتائج الميدانية المحدودة التي حققها الجيش الإسرائيلي حتى الآن.
أثر الحرب على خزينة “إسرائيل”
قدر تقرير لصحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أن تكلفة الحرب على الجبهة اللبنانية بلغت 9 مليارات دولار خلال شهري أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر الماضيين، ما دفع الحكومة لإعادة النظر في ميزانية الدولة لمواجهة الأعباء المالية.
ومع استمرار القتال، قد تصل نفقات الحرب إلى 111 مليار شيكل حتى نهاية العام، متسببةً في عجز مالي بنسبة 6.8%، ورفع نسبة الدين العام إلى 71.6%.
كما أن العمليات العسكرية طالت منطقة حيفا، المركز التجاري والطاقوي لإسرائيل، حيث تكلف قصف منشآت حيفا 150 مليون دولار يومياً.
وأدى تضرر قطاع السياحة في منطقة الجليل، والذي يزوره سنوياً 1.5 مليون سائح، إلى خسائر بلغت 3.5 مليارات دولار، فيما يتكبد قطاع الزراعة في الجليل أيضاً خسائر وصلت إلى 500 مليون دولار، نتيجة تعذر وصول المزارعين إلى أراضيهم خوفاً من نيران حزب الله.
وبلغت تكلفة إخلاء 28 مستوطنة في الشمال حتى شباط/ فبراير الماضي 613 مليون دولار، إضافة إلى 1.7 مليار دولار خصصت لمواصلة تمويل الإخلاء حتى تموز/ يوليو الماضي.
كما قدمت الحكومة تعويضات بنحو 4 مليارات دولار لمنازل المستوطنين المتضررة نتيجة القصف، فيما أفاد “بنك إسرائيل” أن غياب نحو 57 ألفاً من قوة العمل في الشمال يكلّف الاقتصاد الإسرائيلي 63.2 مليون دولار أسبوعياً.