نضال الخضري
سواء في غزة أو لبنان أو حتى في شوارع دمشق هناك حكايا تتلاشى مع كل قصف يطالها، فالأبنية في المدن القديمة هي أكثر من ذكريات أو روايات لضجيج الأطفال وصخب الحياة، وعندما تهزها الانفجارات فهي تنشر حولها وجوهاً كان لها بريقها، وأصواتاً لأجيال وسمت تلك المدن بضحكاتها، وطبعت على جدرانها مسيرة حياة خاصة، فـ”إسرائيل” تكتب فصول مختلفة للتفاصيل التي رافقت الجميع، وترتب ألواناً قاتمة تكتسح الأحياء المدمرة.
هناك سؤال يبقى عالقاً عن التدمير المتكرر، فهو يوحي بملامح غريبة ونقمة على الحياة، فالرغبة في التدمير هي نوع من كسر الحياة التي لا تخص البشر فقط، فحجارة المدن هي حياة مختلفة، وأعمدة بعلبك ترسم لوحة حياة يكرهها “الإسرائيلي”، وكل أزقة غزة تشكل أرقاً لا يرتبط بالأنفاق أو بحماس إنما بظاهرة البقاء رغم القسوة، وبالقدرة على كتابة تاريخ مختلف لوجوه استطاعت جعل المدن حالة حية.
قصف الأحياء ليس جديداً لكن تدميرها المتكرر هو نوع من تدمير أحلام البشر، فلا الأغراض العسكرية يمكن فهمها من نسف الأبنية لمرات عديدة، وليس هناك من تفسير لاغتيالات لن تغير مسار الحرب داخل شوارع دمشق، وما يملكه “الإسرائيلي” من ترتيب للمدن التي احتلها يبدو “أجمل” من تراكب البيوت في المدن القديمة، لكن القدرة على فهم طبيعة البقاء في أزقتنا المتشابكة يقلق رغبته في احتواء الجميع، ووضع كل الحياة ضمن رؤيته الخاصة.
كم من الحروب دمرت تلك المدن، أو اجتاحتها وتركت بصمة حزن يصعب محيها، لكن الجديد هو الرغبة في جعل خرائب المدن شكلاً شائعا ًفي حياة الناس، وجعل المجتمعات مذعورة من صورة الخرائب التي تقصف رغم أنها باتت خالية، فالانتقام من الحياة داخل مدننا هو الصورة النهائية لتلك الحرب التي تريد رسمنا من جديد، وتفصل “العمران” عن مسار الحياة التي اعتدناها.
في فصول حرب غزة يصبح الحجر رمزاً لما يمكن أن تخلفه “إسرائيل” من إرث أسود للأجيال القادمة، فأي “إعادة إعمار” سيبقى تشويها في ظل الرغبة في الانتقام من الجغرافية التي نعبش عليها، وإذا كان العالم صامتاً أمام الخراب الذي نشهده فلأنه بات مذهولاً بتجارب الحياة التي لا تملك خيالاً، وبصور “الرفاهية” التي ظهرت فجأة في محيط الحرب التي تستهلكنا، فالحرب اليوم ليست “التغطية المستمرة” لبعض القنوات الفضائية، بل هي أيضاً كم من البرامج والمهرجانات التي تُذهل العالم بالبذخ، وتقدم نموذجاً لخطف الأبصار وسط الموت التي تزرعه “إسرائيل”.
ربما نجلد أنفسنا بفشلنا في مقارعة عدو يحاربنا منذ أكثر من نصف قرن، لكن حربنا تبدو مختلفة لأنها صورة التناقض الصارخ بين الرغبة في البقاء وحالة الفزع من المخاطر التي تحملها الأجيال من أرث الحروب، فنحن نواجه “إسرائيل” وسط كم من السياسة التي تقوم بتزييف الصراع، ونحن أيضاً أمام مفارقة صعبة بين ثقافة البقاء وظاهرة التلاشي لكل ما نقلته سنين الصراع من مخزون في الذاكرة، فحربنا في النهاية هي مواجهة متعددة الجبهات وأخطرها قتل الأحلام واغتيال الثقة بأننا نستحق البقاء.