قد يتبادر إلى الذهن أن تشكيل حكومة جديدة في الجمهورية العربية السورية يعني أن مساراً جديداً ومختلفاً للعمل التنفيذي سيبدأ مع أداء أعضاء الحكومة اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، لكن الحقيقة أعقدُ من ذلك بكثير وأصعب من أن يحيط بها من هو بعيد عن الشأن التنفيذي.
فالعمل التنفيذي تراكمي عموماً، فكيف والحال في بلدٍ تعيش حرباً منذ 13 عاماً وتعاني حصاراً غير مسبوق وتواجه أزمة اقتصادية وشحاً في الوقود وحوامل الطاقة وتراجعاً في الزراعة والصناعة؟
اليوم تواجه حكومة الدكتور المهندس محمد الجلالي بعد تشكيلها مباشرة ملفات ضخمة وإرثاً ثقيلاً لا يحتمل التراخي والتسويف وواقعاً اقتصادياً مزرياً، إذ يرزح ما يزيد على 90% من السوريين تحت خط الفقر العالمي مع انخفاض موارد الدولة من تجارة وسياحة وموارد طبيعية بسبب من تبعات الحرب من جهة وسياسات التخلي الحكومية السابقة التي اتبعت سياسة “دبر راسك” و “من وين بدنا نجيب مصاري؟” ولم تجد سوى جيب المواطن “المعتر” مطرحاً لجباية الأموال.
أمام الحكومة السورية المقبلة فرصة من 3 أو 4 سنوات على الأقل، إذ إنه نادراً ما تعيش حكومة سورية أقل من ذلك، أي إلى موعد الانتخابات الرئاسية عام 2027 أو البرلمانية 2028، وهي مطالبة في هذه الفترة استعادة دور الدولة في رسم السياسات الاقتصادية القادرة على وقف تدهور الوضع المعيشي للمواطن كبداية.
وبعد ذلك إعادة الحياة للقطاعات الاقتصادية المنتجة من زراعة وصناعة التي تحمي الدولة وتصون قرارها السيادي وتمنع أي جهة من لي ذراع دمشق بضغوط من أي نوع كانت، إذ ليس مقبولاً بعد اليوم التذرع بالحرب وتداعياتها “لعدم تأدية شيء” لأن الجميع يعلم تداعيات الحرب حتى آخر مواطن في أبعد قرية من البلاد.
ليس المطلوب من الحكومة الجديدة تقديم وعود وآمال وردية غير قادرة على تنفيذها، ولكن ليس مقبولاً منها أيضاً الركون للواقع والاستسلام له وجعل الحرب مشجباً لتبرير التقصير وعدم تأدية المسؤوليات المناطة بها، بل المطلوب معرفة الواقع واجتراح الحلول المناسبة لحال البلد وبذل أقصى الجهود لوقف التدهور الاقتصادي ضمن برامج زمنية حقيقية.
اليوم، ليس هناك أولوية تسبق حل أزمة النقل الموجودة في البلد وتداعياتها باعتبارها شريان الاقتصاد من تجارة وصناعة وزراعة والأعمال كافة، ففي ظل أزمة النقل المتفاقمة مع نهاية عهد الحكومة السابقة(من شح المحروقات إلى فقر وسائل النقل العامة) تعرضت البلاد لشلل تام في مختلف مناحي الحياة، ناهيك عن الحالة النفسية والتبعات الاقتصادية التي أصابت المواطنين وأشغالهم.
السوريون اليوم ليسوا بحاجة إلى مسؤولين في السلطة التنفيذية لإعادة شرح الأسطوانة التي حفظوها على مدى سنوات، عن الحرب وتداعياتها وانخفاض موارد الدولة وقدراتها المالية، بل هم بحاجة إلى من يقدم لهم خططاً ويضع لها الأدوات للتنفيذ من دون وعود كبيرة، ولكن من دون رعونة وقلة خبرة وتجريب جديد يضاف إلى سلسلة التجارب الحكومية السابقة التي أفقرت الشعب وجردته من أدوات الإنتاج.
فهل يعقل أن كل شيء يتم تسعيره في البلد بسعر الدولار ويدفع المواطن ثمن كل السلع وفق التكاليف الحقيقية سواء ثمن الخدمات الحكومية أم غير الحكومية باستثناء بعض القطاعات (خبز وطبابة وتعليم)، في حين تقف الحكومة عاجزة عن شراء محصول القمح أو الدخان بالسعر الحقيقي، أو رفع رواتب الموظفين تحت ستار الخوف من التضخم؟
الكل يعلم أن التضخم تغوّل وابتلع المواطن ورواتبه ومداخليه ومدخراته، مرة بتسعير المواد في السوق وفق أسعار الدولار المعلنة مضروبة بأضعاف عدة، وأخرى مع مضاعفة الحكومة أسعار الخدمات التي تقدمها مرات عدة، من دون خشية من التضخم إياه.
الأولوية الثانية هي المياه اللازمة للزراعة، أمّا وقد خسرنا حتى اليوم موارد الجزيرة السورية من قمح وقطن ونفط وغاز، فهل نبقى نتأمل وننتظر وصول الإمدادات من الدول الصديقة أم نعمل لتعويض هذه الموارد في مناطق سيطرة الدولة؟
لا شك في أن استعادة الجزيرة السورية هي أولوية سياسية وعسكرية، لكن اليوم المطلوب تدعيم الدولة وشعبها لتتعزز قوتها وقدرتها على استعادة ما خسرته، وهذا لن يكون إلا بشعب قوي منتج وقادر على العيش وليس شعب ينتظر المعونات الخارجية والمساعدات.
دعم الزراعة والإنتاج الزراعي في مناطق سيطرة الدولة، لن يكون إلا بدعم حوامل الزراعة من مياه للري بإقامة مزيد من السدود وحفر الآبار وتأمين الطاقة سواء بمشاريع الطاقة الشمسية أم بالمحروقات وتوفير المبيدات الحشرية والأسمدة اللازمة في عملية الإنتاج الزراعي، وتعزيز المشاريع الصغيرة على مستوى القرى والبلدات والتجمعات السكانية الصغيرة.
معالجة هذه الملفات تقود طبيعياً إلى انتعاش اقتصادي وتوفير البيئة المناسبة لمعالجة ملفات أخرى كملف إعادة الإعمار، وهي عملية تستلزم مشاركة وتمويل دولي، وكذلك التمهيد لعودة اللاجئين الذين يتعرضون للابتزاز والتنكيل في عدد من الدول المضيفة.