مازن بلال
تضيق الخيارات السياسية أمام حرب غزة، فالتداعيات لم تعد محسوبة رغم عمليات ضبط النفس التي تمارسها الدول، والمعارك تدور ضمن هامش مختلف ووفق اشتباك غير مألوف يرسم ملامح لصراع يكسر كل التقاليد التي شهدتها المنطقة منذ عام 1948، فهناك جغرافية من غزة إلى بغداد محكومة بعمليات عسكرية لا تخضع لتوازن القوى الخاص بالدول، وأشكال “المقاومة” تظهر وفق التفوق “الإسرائيلي” بشكل يشبه التمرد على كل التصورات السياسية المطروحة لإنهاء الحرب أو الدخول في مسار تفاوضي بين حماس و”إسرائيل”.
عمليا فإن الشكل القتالي الذي قدمته “إسرائيل” يحاول رسم مشهد رعب للمواجهة القائمة، وعندما ضربت مؤخرا في دمشق فإنها قدمت نموذجا منقولا من غزة في صورة الدمار، وفي ركام المباني غير المألوف ضمن أشكال اعتداءاتها السابقة على سورية، ومهما كان نوع استهدافها فإنها ترسم دفاعها عن نفسها ضمن حالة جديدة كليا، فنحن نرى اليوم أكثر من مسألة الإصرار على استمرار الحرب، فـ”إسرائيل” تكسر المساحات السياسية التقليدية وتضع من غزة نموذجا لنوعية علاقتها القادمة مع محيطها الجغرافي وفق تصورين:
الأول يرتبط بمسؤوليتها الكاملة عن سيناريو الحروب حولها، فهي عبر الشكل الذي قدمته في غزة تنهي قضية “الدفاع عن نفسها” عبر اتفاقات سلام أو تفاهمات لخطوط هدنة تحدد أمرا واقعا يحد من إمكانية نشوب نزاعات، وتخرج من إطار “عملية السلام” التي كانت في جوهرها توازنا في الحقوق بين جميع الأطراف، وتجاوز لموازين القوى العسكرية لصالح نظام إقليمي يبعد شرقي المتوسط عن مساحة الحروب الإقليمية.
في حرب غزة لم تعد “إسرائيل” تفرض شرطها العسكري كما في كل تحولات الصراع السابقة، إنما ترسم تصورها لأشكال السيادة في دول جوارها الجغرافي، وعندما تتعدى على سورية بنفس نموذج غزة فإنها تريد فرض علاقات إقليمية محورية تلتقي ضمن سياساتها فقط متجاوزة سيادة الدول، فـ”حرب الاستخبارات” ضد إيران لم تعد من النوع الصامت الذي يكتفي بالاغتيال، بل ينتقل إلى التدمير العنيف والشكل الصارخ من فرض سطوتها.
التصور الثاني يتجاوز القوس الجغرافي الذي تعتبره مساحة لضمان وجودها، لأنه ينتقل عن إمكانيات السلام مع المنطقة عموما، وإعفائها من أي التزامات تجاه العالم فيما يخص إرادتها في فرض القوة ضمن محيطها.
حجم العنف الذي استخدمته “إسرائيل” في حربها الحالية تريد منه أن يكافئ شكل السلام لحظة توقف الحرب، فالعلاقة معها ليست خيارا بل ضرورة للنظام الإقليمي الذي سيقبلها بفعل القوة شريكا كاملا لا يحتاج لوسطاء دوليين، فـ”السلام” كما يبدو في الأفق يشكل قفزة نحو عالم تظهر فيه “إسرائيل” نقطة ارتكاز لكامل المنطقة وليس مجرد دولة “تسعى” للسلام كما حاولت معظم الدول الأوروبية الترويج له منذ إقرار تأسيسها.
الاعتداء الأخير على دمشق وضع “النموذج الإسرائيلي” خارج غزة، وأوضح أن الحرب الإقليمية قائمة وإنما بأشكال غير تقليدية، فهي مع عدم وجود توازن عسكري تكسر قواعد الحدود السياسية وسيادة الدول، وتجعل الحرب مفتوحة في مواجهة “مفهوم إسرائيل” الجديد لوجودها.