هاشتاغ-عصام التكروري
منذُ استقلالها عام 1962 والجزائر تخوضُ حرباً ضروساً لاستعادة “الأرشيف الجزائري” الذي سرقتهُ فرنسا كاملاً عشية الاستقلال، أرشيفٌ يتضمنُ ثلاثةَ قرونٍ من تاريخِ الجزائر تحتَ الاحتلال العثماني، وقرنِ وربع القرن من تاريخها تحت الاحتلال الفرنسي، وهو في حال استعادته سيُمكّن المواطن الجزائري من معرفةِ التاريخ الحقيقي لبلاده أقلّه عبر القصّ الدرامي ( سينما، مسرح، مسلسلات..) الذي سيجمع ـ على غرار التأريخ الدرامي الأوروبي للحربين العالميتين ـ ما بين متعة الفرجة ومصداقية المعلومة التاريخية بدلَ الاتكاء على المُخيلة الشعبية لإنتاج فانتازيا لا تمتُ للتاريخِ الحقيقي بصلةٍ اللهم إلا من خلالِ الأزياءِ و الديكور وثنائية الصراع بين الخير والشر.
في سوريا، لا أحدَ يعرفُ على وجه الدقة مصيرَ “الأرشيف الوطني السوري” عن حقبةِ الاحتلالين العثماني والفرنسي، فمنذُ سنواتٍ وجلّ اهتمامُ القائمين على الشأنِ الثقافي ـ وزارة وجمعيات مجتمع أهلي ـ ينصبُّ على توثيق التراث اللامادي من الوردة الدمشقية إلى صناعة الشنكليش دونَ التطرقِ لا من قريبٍ ولا من بعيد لمصيرِ هذا الأرشيف الذي يُفترض ـ أسوة بالأرشيف الجزائري ـ أنَّ المُحتلَّ قد وثّقَ فيه لشخصياتٍ عاشت ولأحداثٍ وقعتْ خلالَ فترةِ سيطرته.
في الحقيقة، شَكّل غيابُ “الأرشيف الوطني السوري” فرصةً لا يجبُ تفويتها لأنّ ” الفرصة وقت اللذي بتمدلك راسها، لا تتحيون وتعطيها ظهرك” وذلكَ بحسب مقولة “عاصي الزند” نقلا عن معلمه “نيتشه”، لذا هبَّ كتّاب الدراما من فصيلة ” قولوا الله يا رجال”، ليمسحوا الأرض ب “العصمللي” و”الفرنساوي” على وقع “زلاغيط حريم الحارة” في سرديات فُرجَوية اكتسبت “موثوقيتها” لا من خلالِ اعتمادها على مادةٍ تاريخيةٍ مصدرها “الأرشيف الوطني السوري”، بل بالاعتماد على تعطشِ السوريين لمعرفةِ تاريخِ بلادهم خلال حقبةٍ لا تحظَ بالحد الأدنى من الاهتمام سواء في المناهج التعليمية أو في الإعلام الرسمي.
وبالرغم من أنَّ بعض مذكرات شخصيات تلك الحقبة متوافرة، فإنَّ عدداُ ضئيلا من كتّاب الدراما اعتمدوا على بعضها لكتابةِ أعمالٍ هامة ( حمام القيشاني،حارس القدس،أخوة التراب، مسرحية سفربرلك مثلاُ) أعمالٍ رأى منتجوها أنَّها ” ما جابت همها ” قياساً بأعمال الفانتازيا التاريخية التي كتبها جماعة ” قولوا الله يا رجال” وساهمت ـ بتقديري ـ باختراق الوعي السوري في آذار 2011، علماً بأنَّ هذا الوعي مازالَ اليوم مرشحاً لمزيدٍ من الاختراق في ظلِ عزوفِ عموم السوريين عن القراءة لصالحِ ركضهم الدامي وراءَ الرغيف، فضلاً عن الانتشار الفطري لمواقع وصفحات مجهولة المصدر تستهدف جيل “الأندرويد” خصوصا عبر تقديمِ قراءتها الخاصة لما تسميه ” التاريخ السوري” مركّزةً على الفترة الممتدة مابين 1955 حتى 1970 بوصفها الفترة “الغائمة” من التاريخ السوري المعاصر، وبعض ما كُتب عنها يُسرب إلى “بسطات” تحت الجسر أو أرصفة الحلبوني.
تكمنُ المفارقةُ في أنَّ معظمَ السوريين يعرفونَ عددَ السفنِ في معركةِ ذات الصواري (655/الطبري)، ويعرفونَ جُعالة الجند في معركةِ القادسية ( 636/الطبري)، وألوانَ ثيابِ المقاتلين في معركةِ حطين( 1187/ابن الأثير) وذلك بفضل أعمالٍ دراميةٍ موثّقةٍ تاريخياُ، لكن إذا سألتهم ماذا يعرفونَ عن الزعيم إبراهيم هنانو يكونُ الجواب بالعموم أنَّه البطل الذي قاومَ الفرنسيين، واستُشهدَ في شمال سوريا، ويؤيدون ما ذهبوا إليه بأهزوجة:
طيارة طارت بالليل فيها عسكر فيها خيل
فيها إبراهيم هنانو راكب على حصانو
هذا الأمر يؤكد ضرورةَ البحثِ أو الكشفِ عن “الأرشيف الوطني السوري”، وتناوله بالنشرِ والتحليلِ وإلا فسيكون من العسيرِ على الكثيرين معرفةُ البُعد الملحمي لشخصية الشيخ صالح العلي (1883ـ 1950) أو إبراهيم هنانو (1869ـ1936)، هنانو الذي كانَ مُجازاً في الحقوق، وعمل قاضيا للتحقيق في كفر تخاريم، وممثلاً عن حلب في المؤتمر السوري العام (1919) الذي أعلنَ استقلالَ سوريا في 8 آذار 1920، أحد قادة النضال المُسلح في الشمال (1920 ـ 1921)، رئيس لجنة صياغة دستور1928، زعيم حزب الكتلة الوطنية (1933) حتى وفاته، هذه المعلومات الموثَّقة عن هنانو لا تعني شيئا ـ على ما يبدو ـ لمخيلة كتّاب الدراما الذين صدروا عاصي الزند والعكيد أبو شهاب ونصّار ابن عريبي بوصفهم قادة النضال الوطني الذين ” صدّوا فرنسا بالمقلاع … وقالوا يا محتل طلاع” … والحبل على الجرار …. والمستقبل “عم يلالي” .