Site icon هاشتاغ

سوريا.. نحو اعتماد مقاربة اقتصادية جديدة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمعيشية الراهنة

سوريا.. نحو اعتماد مقاربة اقتصادية جديدة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمعيشية الراهنة

سوريا.. نحو اعتماد مقاربة اقتصادية جديدة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمعيشية الراهنة

هاشتاغ – بقلم الدكتور جوليان بدور*

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الشرقية ذات الاقتصاد الاشتراكي في نهاية القرن الماضي، تبنت الكثير من دول العالم، الغنية منها والفقيرة، الليبرالية الجديدة كاستراتجية اقتصادية لتحفيز النمو الاقتصادي المستدام وجلب الرفاهية لمواطنيها.

ولم تسلم سوريا من هذه الحملة. ففي عام 2005 تم اعتماد نظام الليبرالية الجديدةباسم “اقتصاد السوق الاجتماعي” ظناً من الدولة أن هذا النموذج سيمكّنها، بالإضافة إلى تجاوز المشكلات والعقبات المتوارثة من نظام التخطيط المركزي، من الدخول بعهد جديد من النمو الاقتصادي القوي والمستدام وجلب الرفاهية لغالبية السكان.

لكن السؤال اليوم هو هل مكنّت الليبرالية الجديدة، المغطاة باسم اقتصاد السوق الاجتماعي، السلطات السورية من تحفيز النمو المستدام للاقتصاد وتحسين المستوى المعيشي للناس، أم أنها بخلاف ذلك تماماً، أدت إلى تراجع النمو الاقتصادي وتهميش القطاع العام وإضعافه ومفاقمة مشكلة الفقر وعدم المساواة في البلاد؟

تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على أهمية تغيير النموذج الاقتصادي المعمول به منذ عام 2005 واستبدال منهج اقتصادي جديد ذي قواعد وأسس مختلقة في طريقة إدارة الموارد والتنمية الاقتصادية والإدارية للبلاد به.

حتى وقت قريب قلة هم الذين تحدّثوا، على الأقل من الوسط الحكومي، عن وجود أخطاء في السياسات الاقتصادية المتبعة. لكن التدهور السريع في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية خاصة خلال السنوات الأربع الماضية، استدعى من بعض المسؤولين الحكوميين إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية العامة المتبعة منذ عام 2005.

فبحسب وزير المالية السابق الدكتور إسماعيل إسماعيل (الوطن 19/9/24) أنتجت السياسات الاقتصادية السابقة عواقب اقتصادية واجتماعية كارثية وكثيرة:

أولاً.. تفاوت حاد وصارخ في توزيع الثروات والدخول وهذا أدى إلى انعدام ثقة المواطنين بالأداء الحكومي واختفاء الطبقة الوسطى التي كانت تشكل 80% عام 2011.

ثانياً.. تركز الثروات بأيدي المحتكرين من تجار ورجال أعمال الذين طوّعوا السياسات الاقتصادية لتتناسب مع مصالحهم.

ثالثاً.. تزايد حجم اقتصاد الظل إلى نحو 75% بعد أن كان بحدود 19% في عام 1980 بسبب فرض الضرائب العالية وصعوبة تمويل المستوردات عبر المنصة.

رابعاً.. استفحال ظاهرة الكساد التضخمي بسبب عدم التنسيق بين السياسات النقدية والمالية.

خامساً.. تفاقم ظاهرة الفساد لتصبح ثقافة ومنهجية عامة لتأمين لقمة العيش لكثير من الناس (الراتب 350 ألف ل. س بينما حياة الأسرة والموظف تتطلب دخلاً لا يقل عن ثلاثة ملايين).

الليبرالية الجديدة بأبشع صورها

إن مقارنة بسيطة بين هذه الآثار والتداعيات الكارثية التي أشار إليها وزير المالية السابق الدكتور إسماعيل وما أنتجته الليبرالية الحديثة في الدول كافة التي تبنتها من عواقب وتداعيات، وخاصة الدول النامية، تشير إلى أن النموذج الاقتصادي المطبّق في بلدنا ليس هو فقط الليبرالية بمفهومها التقليدي وإنما هو الليبرالية الجديدة وبأبشع صورها.

من جانبهم عدد كبير من الخبراء والمختصين ووزراء بالحكومة السابقة (وزراء الاقتصاد والتجارة الخارجية والمالية وشؤون الاجتماعية والعمل وحاكم مصرف سوريا المركزي)، الذين شاركوا بالندوة التي أقيمت في 31- 5- 2024 أكدوا أنه من غير المنطقي ومن غير الطبيعي أن نستمر بالرؤى والسياسات المسؤولة عن تدهور الوضع الاقتصادي بالبلاد، وقد حان الوقت لوضح حد للتخبط الحكومي الناجم عن الغموض المرتبط بتنفيذ سياسات اقتصادية إجرائية غير معلنة تعمل لتطبيق الاستجابة الآنية لمفرزات الحرب وليس وفق خطة اقتصادية شاملة وواضحة.

وبرأيي المشاركين بالندوة أصبحت البلاد بأمس الحاجة إلى مقاربة مختلفة للاقتصاد تسمح بوضع رؤى وسياسات اقتصادية جديدة بغية إيجاد حل متكامل وبنّاء للضائقة المعيشية.

وضع حد لسياسة الترقيع

حان الوقت لوضع حد لسياسة الترقيع المتبعة من قبل الحكومات السابقة واستبدال سياسة التغيير الجذري والشامل في الشأن الاقتصادي والإداري بها.

على الرغم من اعتراف بعض المسؤولين بالحكومات السابقة بالأخطاء الكارثية التي أنتجتها السياسات الاقتصادية السابقة، فإن أياً منهم لم يتهم بشكل واضح وعلني النهج الاقتصادي النيوليبرالي المطبق باسم “اقتصاد السوق الاجتماعي” كمسبب رئيسي لهذه الأزمات، وهنا تكمن المشكلة. الاعتراف بعوارض المرض شيء جيد لكنه غير كافٍ، لسبب بسيط هو أنه حتى نتمكن من معالجة أعراض المرض علينا تشخصيه تشخيصاً دقيقاً وصحيحاً. لأن عدم تشخيص المرض تشخيصاً علميا ودقيقا سيدفعنا إلى أتباع سياسة الترقيع أو سياسة علاجية غامضة وغير فعالة، وهذا سيساهم في إطالة عمر الأزمة.

لكن كما أشار الرئيس بشار الأسد في لقائه أعضاء الحكومة الجديدة إلى أنه حان الوقت لوضع حد لسياسة الترقيع التي انتهجتها الحكومات السابقة لأنها لم تعد نافعة وأصبحت مكلفة جداً، بالتالي الشرط الأساسي للتخفيف من وطأة الظروف التي يعاني منها المواطن حالياً في بلدنا هو تنفيذ الحكومة تغييراً كاملاً وشاملاً للمنظومة الاقتصادية والإدارية المعمول بها سابقاً.

المشكلة، بحسب الرئيس الأسد، ليست في عدم وجود موارد محلية غير كافية وإنما في سوء نمط إدارة الموارد البشرية والمادية المحلية وتوزيعها على قطاعات المجتمع وعلى المواطنين. ويختم كلمته بالقول إنه “يجب علينا أن نتمكن من صنع رؤى وسياسات اقتصادية عامة جديدة تمكننا من إدارة هذه الموارد إدارة أفضل وأمثل وبما يخدم مصالح الغالبية العظمى من المواطنين. لهذا السبب يجب على الحكومة الجديدة أن تكون حكومة الواقع لا حكومة الأحلام أي أن تتمكن من الاعتماد على الذات وعلى القدرات والإمكانات الوطنية بدلاً من التعويل على الاستثمارات الأجنبية والانفتاح الخارجي”.

الانتقال إلى اقتصاد السوق المنظّم

أمام الدمار الهائل الذي خلفته الحرب الكونية والحصار والعقوبات الجائرة على البلاد وأمام الآثار الكارثية التي أنتجتها السياسات النيوليبرالية المتبعة منذ عام 2005، ما الروئ والسياسات التي ينبغي التخلي عنها وما أنجع الطرائق وأفضل الوسائل للتخفيف من وطأة الأزمات على حياة المواطنين في بلادنا؟

من وجهة نظرنا، الإجراء المهم والأولي الواجب اتخاذه قبل كل شيء هو إحداث تغيير جذري وشامل في أدوات وآليات النهج الاقتصادي النيوليبرالي السابق المسؤول الرئيسي عما آلت إليه الأوضاع بالبلاد. لأن اتباع الرؤى والسياسات العامة نفسها التي طبقتها الحكومات السابقة مع إدخال بعض التعديلات والترقيعات لن تُحدث تغييراً جذرياً على أرض الواقع بل ستؤدي إلى إنتاج الآثار والتداعيات السابقة نفسها أياً كانت نوعية الحكومة بالسلطة.

من باب العقلانية والواقعية وضيق المساحة، نقترح مجموعة من الأفكار التي يمكن أن تساهم أولاً في وضع حد لتراجع الوضع الاقتصادي والمعيشي للسوريين وثانياً في وضع الاقتصاد الوطني على المسار الصحيح من النمو الاقتصادي المستدام.

فيما يأتي بعض من هذه الأفكار:

أولاً- التخلي وقبل كل شيء عن النهج النيوليبرالي السابق، والذي تمكنت قلة من التجار ورجال الأعمال من ترويضه وتطويّعه لخدمة مصالحهم على حساب الغالبية العظمى من الناس، واستبدال نظام جديد به يسمح بالجمع ما بين منطق اقتصاد السوق وآلياته وقوانينه وبين دور الدولة القيادي وأدواتها وتوجهاتها (نظام اقتصاد السوق المنظّم). أي النظام الذي يسمح للقطاع الخاص وغيره بممارسة دوره ونشاطاته الإنتاجية والخدمية وفق معايير الربح والخسارة المعروفة لكن تحت سقف المصلحة العامة للبلاد ورهن مراقبة الحكومة التي توكل إليها مهمة رسم السياسات العامة وترتيب الأولويات الاقتصادية وفق المصلحة العليا للبلاد وليس وفق مصالح فئة قليلة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال.

ثانياً- التخلي عن السياسة المالية والنقدية النيوليبرالية الهادفة لتثبيت سعر الصرف بغية جذب الاستثمارات الأجنبية والعربية المعمول بها سابقاً والتي أثبتت السنوات الماضية فشلها، واستبدالها بإستراتيجية اقتصادية وطنية جديدة قائمة على أسس وقواعد جديدة تتيح استثمار الموارد والإمكانات الوطنية بكفاءة وفعالية أكبر بغية إنعاش النمو الاقتصادي وتحسين الوضع الاجتماعي والمعيشي للمواطنين وخلق بيئة مستقرة وجاذبة للاستثمارات الوطنية والأجنبية.

ثالثاً- وضع خريطة طريق لإصلاح سلم نظام الرواتب والأجور في القطاع العام وزيادة القدرة الشرائية لموظفي وعمال الدولة بوصفه أحد أهم المحركات الرئيسة لتنشيط الدورة الاقتصادية وزيادة الإنتاج الوطني.

رابعاً- تبني سياسات جديدة لدعم القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني وخاصة محاصيل القمح والقطن الاستراتيجية، واتباع نظام تسعير يعود بالنفع على الفلاحين والدولة وليس على التجار الوسطاء كما هو الحال حالياً، بغية تأمين الاكتفاء الذاتي من هذه المحاصيل والاستغناء عن الاستيراد.

خامساً- العمل على تقليل الفجوة الكبيرة بين دخل الأسر والعائلات والمتطلبات الأساسية اللازمة للاستمرار على قيد الحياة الكريمة من أجل إعادة ثقة المواطن بالحكومة والدولة.

سادساً- التخلي عن سياسة التقشف المالية والنقدية السابقة واستبدال السياسة التوسعية المالية للدولة بها لتسمح بزيادة الإنفاق العام والإعانات الاجتماعية والصحية مما يقلل من حدة الفوارق بالدخول ويساهم في زيادة النمو الاقتصادي وواردات الخزينة العامة.

سابعاً- مهما كانت قوة وضخامة معدل النمو الاقتصادي للبلاد، فإن آثاره وتداعياته على أصحاب الدخل المحدود ستكون ضعيفة وضئيلة جداً ما لم يتم تفكيك منظومات الفساد وتركز الثروة بأيدي قلة من التجار ورجال الأعمال.

ثامناً- تخصيص اعتمادات لدعم المشروعات المتناهية الصغر والصغيرة أو لدعم مشاريع اقتصاد الظل بهدف تعزيز الإنتاج الوطني وتحفيز النمو الاقتصادي.

تاسعاً- إجراء إصلاح النظام الضريبي في البلاد بحيث يؤدي إلى زيادة الضرائب والرسوم على الفئات والشركات الأكثر ثراءً بالمجتمع (كما هو متبع بالدول الغنية) وإعفاء أو تخفيف العبء عن الأقل دخلاً منها.

* باحث اقتصادي وأكاديمي في جامعة ريونيون الفرنسية

Exit mobile version