الخميس, ديسمبر 12, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

صورة في زمن متبدل

هاشتاغ – رأي: نضال الخضري

يجلس الجميع من دون تحفظ بينما يلف الدخان أجواء المطعم الذي لا يحمل أي هوية، فهو يتبدل من مكان للقاء إلى مساحة استرخاء وينفصل عن الزمن الذي يحيط به، فعلى الرغم من أنه لا يحمل هدوءا لكن صخبه خاص ومختلف عن المحيط الذي يحمل ضجيج الشارع، وأصوات النقاشات حول أمكنة السيارات، أو صافرة شرطي المرور الذي يحاول جاهدا الإبقاء على تدفق السير من دون توقف، فهناك زمن مختلف داخل المقهى أو المطعم الذي يلقى بظلال من اللامبالاة للحركة العشوائية التي يمكن الانتقال إليها مباشرة بعد عبور الباب.

ليست هناك نقاشات حادة بل كؤوس من العصير موزعة على الطاولات، وصحون أطعمة لا تحمل أناقة خاصة إنما مجرد ألوان من الطعام محضرة لجلسات استرخاء، ففي كل مطعم دمشقي لونه الذي تم ترتيبه وفق الحي الذي يقبع فيه، وما يجمع هذه الأمكنة هو زمنها الخاص الذي يسير خارج إيقاع المدينة، وحالة اللامبالاة التي تجعل الوجوه صورا معلقة على الأجساد، فطريقة ترتيب المقاهي والمطاعم تجعل الأجساد أبعد ما يكون عن حالة الاكتظاظ السكاني لمدينة متعبة، لها زمنها الخاص؛ فابتدعت أماكن غارقة بالسكون المزيف.

أغرب ما تحمله تلك الأماكن هي قدرتها على خلق “قطع” في الوعي عن محيطها، لأنها تسحب فئة واحدة من المجتمع، وتخلق لها أجواء تداعب خيال الرواد، وتمنحهم شعورا أنهم يعيشون في زمن مختلف عن المدينة، ففي الأحياء القديمة هناك لعبة الماضي حيث تصبح البيوت الهرمة مشبعة بنوع خاص من “الدجل”، فتعيد روادها إلى جمالية المكان الذي انتهت صالحيته، فتحول من منزل ضم آلاف الأجيال إلى مرتع خاص لزوار غرباء يأتون إليه لكسر حاجز القسوة الذي يرافقهم، فبمجرد دخولهم من البوابة العتيقة تتحول دمشق بأعينهم لشكل مختلف، لكنهم لا يستطيعون العودة للماضي، على الرغم من كل ما يحيط بهم من أروقة عاشت أيامها الخاصة وانتهت بوصفها مكانا يستقبل الجميع من دون أي اعتبار للحرمة السابقة التي ميزت تلك البيوت القديمة.

في أحياء دمشق الحديثة تتغير الصورة؛ فالمطاعم تحاول محاكاة الغربة التي شهدتها المدينة بالعمارات الأسمنتية، فكل ما نراه على الطاولات لا ينتمي لعصر “الأسمنت” لكنه يحاول أن ينسجم معه، وكل الرواد يحاولون تشكيل صورة من أمكنة أخرى ربما شاهدوها في السينما أو التلفزيون أو على صفحات الإنترنيت، فهناك تعويض عن فقدان خصوصية المدينة التي تخنقها الحافلات وحواجز الأسمنت التي شكلت عمارات خاصة، ونوافذ مغلقة وشرفات حولها أصحابها لغرف إضافية داخل منازلهم.

ما الذي فقدته دمشق أو باقي المدن والأرياف السورية؟ هناك زمن تائه نراه في المقاهي والمطاعم التي تشكل الهروب من المدينة، وتخلق وهماً بأن الجمال والمتعة يمكن فصلها عن باقي جغرافية المدينة، فاللجوء إلى المقاهي لا يستقطب إلا فئة واحدة قادرة على دفع مبلغ لا يتحمله المواطن العادي الذي يفضل البقاء بعيداً، فيفترش أي بقعة متاحة ويتناول مع عائلته أي طعام تم إحضاره من منازلهم، بينما يبقى الزمن المتبدل يطوف بهم ويدفعهم لحلم الدخول إلى مطعم ربما يشكل غربة جديدة لمدينة تريد الهروب من هويتها.

يمكنكم متابعة قناتنا على يوتيوب

مقالات ذات صلة