نضال الخضري
قبل عقدين كان موسم امتحانات الشهادة الثانوية في سوريا يشد انتباه الجميع، فهناك جيل يستعد لدخول مستقبل جديد، واتجاهات مختلفة سيواجهها الشباب بعد الامتحانات، لكن مصير الشباب على ما يبدو أصبح محتوما بعد عام 2011، والزمن الامتحاني مرتبط مع انقطاع الاتصالات وخدمات الإنترنت، فالتوقيت السوري لم يختلف فقط إنما تحول نحو حالة مختلفة تماما، فالعلم على ما يبدو بات روتيناً، أو حتى وقتاً مستقطعاً يقضيه الطالب قبل أن يواجه “المجهول” الذي وضعته الحرب.
مسائل “الغش” كلها التي تتحدث عنها وسائل التواصل الاجتماعي أحياناً، أو “الإقالات” التي ترافق الامتحانات أصبحت عابرة أمام الطلاب وكأنها قدر محتوم، وغابت أيضاً اللحظات الحرجة التي ترافق الشباب وهم يتناقشون عند أبواب المراكز الامتحانية، فهناك شكل من عدم الرضى ليس على الدراسة فقط، إنما على المسار العام الذي ينتهي بالطالب ضمن سوق عمل مغلقة.
لم تعد صورة سوريا قادرة على إرضاء أحد، ولم تعد الأحلام بالهجرة إلى سوق عمل جديدة، في الخليج ربما، تشكل مخرجاً أو حتى مساحة تدفع الأجيال لبناء حالة الطموح، فالحرب السورية بدلت الجميع، وسوق العمل أصبح ضيقاً ولا يحمل معه ذلك التشويق الذي رافق السوريين في الثمانينات، عندما كان المغتربون ينتظرون الصيف للاستمتاع برحلة نحو مدنهم وقراهم، فهناك تصور سوري قاتم حول الزمن الذي يرافقهم.
الحالة السورية كلها تتعرض لتبدلات حادة والموسم الامتحاني نموذج لضرورة إعادة بناء “الحلم المفقود”، ففكرة السفر أو الهجرة كانت حالة تباهي وأصبحت اليوم جزءاً من التشتت الذي يرسم أمام الجميع العجز الذي خلقته الحرب، وأصبحت “الشهادات” المكدسة على جدران المنازل رموزاً لزمن رحل منذ أن أصبحت سوريا حالة يصعب فهمها، فالمستقبل بنظر الأجيال أصبح محشوراً في التخلص من “ذاكرة” الوطن، وبات الزمن الذي يمضيه الشباب في مرحلة الدراسة يحمل عبثية لا تظهر إلا بعد التخرج في الجامعة.
فقدت سوريا أجيالاً خلال الحرب، والأهم أنها خسرت صورتها التي كانت تدفع الجميع إلى التباهي بها حتى ولو أمضى عمره بعيداً عنها، فالحرب شوهت أشكال الشوق كلها، وجعلت الحاضر عبثياً، وقفزت بالسوريين نحو حالة من “الفقد” الذي يصعب تعويضه من دون بناء جسر مع الزمن الخاص الذي قاد إلى الحرب، فالسردية التي يفتقدها الجميع هي “التصالح” مع الذات والاعتراف بأن الحرب لم تعد تحتمل الخطأ أو الصواب بل تجديد التفكير بالمستقبل وبصورة سورية أيضاً.
الموسم الامتحاني هو مجرد تذكير بأن “اللون السوري” المفقود أصبح كابوساً حقيقياً، وأن الأجيال تحتاج إلى “رواية” مختلفة عن الماضي القريب عندما واجه الجميع معضلة الانهيار، وبعد عقد ونصف هناك طيف كامل مفقود ويحتاج إلى بناء مختلف ربما يبدأ بكتابة الأسطر الأولى من سردية التصالح مع الذات، أو حتى ببناء فكرة مختلفة يمكنها أن تعيد الأمل ليس للشباب فقط بل للسوريين كافة فتُرجع لهم الثقة بقدرتهم على الاستمرار.