رغم وجود المعادن النادرة بشكل كبير حول الأرض إلا أن الندرة الفعلية تكمن في أمرين: أولا، إيجاد أراض تتركز فيها تلك المعادن بكثرة. وثانيا والأهم، تطوير عملية فصلها بعضها عن بعض.
وفي الحالتين، قامت الصين بعملها على أكمل وجه منذ ثلاثة عقود، وهي تقطف ثمار تعبها اليوم لتستحوذ على الحصة الأكبر من إنتاج هذه المعادن واستعمالها في الصناعة المحلية وفي التصدير أيضا.
وعلى المقلب الآخر، فإن الولايات المتحدة التي استيقظت متأخّرة من غيبوبة العولمة، تريد تأمين إمداداتها الاستراتيجية من هذه العناصر بعيدا عن الصين، مهما تكن الوسيلة الضرورية لذلك.
الصين تتصدر العالم في المعادن النادرة
قبل عام 1990، كانت الولايات المتحدة مكتفية ذاتيا إلى حد كبير في إمداداتها من المعادن النادرة، ووفرت جميع احتياجاتها من منجم “ماونتن باس” في كاليفورنيا.
لكن مع توقيع الصين اتفاقيات تجارية مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، في مطلع التسعينيات، والتي أمنت انخفاضا في كلفة العمالة والمتطلبات التنظيمية، أصبحت الصين موردا بديلا أقل كلفة.
وفي تلك الفترة، تنبّت الصبن إلى أهمية المعادن النادرة على المستوى الاستراتيجي مبكرا.
ولذلك وسّعت عمليات استكشاف أماكن وجود المعادن على أراضيها، واستحدثت تقنيات مبتكرة لفصل العناصر بعضها عن بعض.
كما عملت على عقد اتفاقيات مع بلدان آسيوية وأفريقية وجنوب أميركية لضمان استخراج المعادن النادرة منها مقابل مساهمتها في تطوير البنية التحتية أو المشاريع التكنولوجية لهذه البلدان.
وبمرور السنوات، تصدرت نسبة احتياطات المعادن النادرة ونسبة إنتاجها في الصين العالم كله.
وبحسب تقرير نشرته وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الأميركية عام 2021، فإن الصين تسيطر على نحو 80% من إمدادات المعادن النادرة العالمية، سواء ما تقوم بتعدينه من موارد أراضيها، أو عمليات فصل العناصر من المواد الخام من أماكن أخرى في العالم.
أهمية المعادن النادرة
أهمية المعادن النادرة، التي تسمى أيضا العناصر الأرضية النادرة “REE”، أنها مكونات ضرورية لأكثر من 200 منتج.
وهذه المنتجات تدخل في صناعة مجموعة واسعة من التطبيقات، ولا سيما المنتجات الاستهلاكية عالية التقنية، مثل الهواتف الخلوية، ومحركات الأقراص الصلبة للكمبيوتر، والمركبات الكهربائية والهجينة، والشاشات المسطحة وأجهزة التلفزيون.
كما تشمل التطبيقات الدفاعية المهمة شاشات العرض الإلكترونية وأنظمة التوجيه والليزر وأنظمة الرادار والسونار.
ورغم أن كمية معادن الأرض النادرة المستخدمة في منتج ما قد لا تكون نسبتها كبيرة أو مهمة لجهة الوزن أو القيمة أو الحجم، إلا أنها ضرورة حتمية لتشغيل الجهاز.
وعلى سبيل المثال، المغناطيسات المصنوعة من معادن الأرض النادرة تمثل جزءا صغيرا فقط من الوزن الإجمالي، ولكن من دونها لن تعمل المحركات أو الملفات الصوتية لأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية.
أهم المعادن النادرة
أحد أهم العناصر الأرضية النادرة هو النيوديميوم، وسبائك النيوديميوم والحديد والبورون “المعروفة باسم NdFeB”، وهي التي تخلق أقوى مغناطيس دائم تم اكتشافه حتى الآن.
وتحتوي هذه المغناطيسات أيضا على بعض البراسيوديميوم، ما ينتج سبيكة “PrNd”.
وهي أمور أساسية لـ “صناعة الطاقة النظيفة” في العالم وهدف الحياد الكربوني بحلول عام 2050.
وتستخدم المغناطيسات في القطارات ومحركات السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والتطبيقات الموفرة للطاقة.
وتستخدم مغناطيسات “NdFeB” أيضا، بكميات صغيرة، في الهواتف الذكية والميكروفونات ومكبرات الصوت وأطقم الأسنان ومشابك الأبواب وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي.
فهي تتسلل إلى جميع جوانب حياة الناس، رغم أنها غير متداولة إلا على نطاق ضيق.
صراع تجاري
بدءا من عام 1990 وما بعده، أصبحت إمدادات معادن الأرض النادرة تمثل مشكلة، فقد بدأت حكومة الصين بتغيير كمية المعادن النادرة التي تسمح بإنتاجها وتصديرها.
كما بدأت الحكومة الصينية في الحد من عدد الشركات المشتركة الصينية – الأجنبية التي يمكنها تصدير معادن الأرض النادرة من الصين.
وفي عام 1993، كان 38% من الإنتاج العالمي لمعادن الأرض النادرة في الصين، و33% في الولايات المتحدة، و12% في أوستراليا، و 5% في كل من ماليزيا والهند.
العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك البرازيل وكندا وجنوب أفريقيا وسريلانكا وتايلاندا، شكلت الباقي.
ومع ذلك، في عام 2008، شكلت الصين أكثر من 90% من الإنتاج العالمي لمعادن الأرض النادرة، وبحلول عام 2011، شكلت الصين 97% من الإنتاج العالمي.
وحاليا، يمكن القول إن الصين تهيمن في هذه الصناعة بشكل أحادي، وهي في مرتبة مريحة لدرجة أنها لا تمتنع عن تدريب رواد الأعمال الناشئة – حتى الأميركيين منهم – على التقنيات والمعدات التي طورتها لهذه الصناعة.
كما أنه بحسب تقرير مصور نشرته “وول ستريت جورنال”، تبيع الصين معدات إنتاج المعادن النادرة إلى كل من يرغب فيها.
وهذا أمر إذا ما قيس بكيف تحرم الولايات المتحدة، الصين، من الحصول على جهاز (euv lithography) لصناعة أشباه الموصلات الفائقة الدقة، يوضح الفروقات الفكرية في كيفية تحرك أكبر لاعبين اقتصاديين على الساحة الدولية.
الفجوة الأميركية
بحسب تقرير نشرته زكالة “بلومبيرغ”، تتصدر 6 شركات صينية إنتاج معادن الأرض النادرة. وفي مقابل ذلك، هناك شركة واحدة أميركية تعنى في هذا المجال.
وخلال إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ومع تنامي الحرب التجارية بين أميركا والصين، استعملت الجمهورية الشيوعية ورقة المعادن النادرة كتهديد ردا على العقوبات التي فرضها ترامب على شركتي “هواوي” و”ZTE” الصينيتين.
وصحيح أن الصين لم تتوقف عن تصدير تلك المعادن إلى الولايات المتحدة، إلا أن الأخيرة استفاقت أن لها نقطة ضعف.
ومنذ عام 2020 بدأ المشرّع الأميركي يبحث عن أساليب لحماية إمداداته الاستراتيجية من الأتربة النادرة، وخصوصا أنه يتوقع أن يبلغ الطلب السنوي على هذه العناصر نحو 400 ألف طن سنويا، مقارنة مع 237 ألف طن حاليا.
وهذا أمر بالغ الأهمية، وخصوصا عندما يكشف تقرير للكونغرس أن كل طائرة من مقاتلات “F-35” الأميركية، تحتوي على 417 كلغ من المعادن الأرضية النادرة.
وعمليا، صناعة معظم الأسلحة المتقدمة تحتاج إلى الصين، وهذا أمر لا يمكن أن تهضمه الولايات المتحدة، أقله على الصعيد النفسي.
وفي وقت لاحق من عام 2020، أصدر ترامب الأمر التنفيذي الرقم 13953، معلنا أن الاعتماد على الصادرات الصينية للمعادن النادرة هو “حالة طوارئ وطنية”.
سمح هذا الأمر التنفيذي بتفعيل قانون الإنتاج الدفاعي، والبدء بإنشاء مناجم محلية مع إعطاء الأولوية لتوسيع المعادن المستوردة وحمايتها عبر سلاسل التوريد المضمونة.
وبدورها، أشارت إدارة بايدن إلى نيتها مواصلة جهود الإدارة السابقة وتوسيعها، وتعهدت بالاستثمار في عمليات فصل المعادن النادرة بتضمينها في خطة البنية التحتية التي تم تمريرها أخيرا بقيمة 2 تريليون دولار.
وأعلن الرئيس بايدن تشكيل فرقة عمل برئاسة وزراء التجارة والنقل والزراعة، كما تشجع توصيات بايدن وزارة الدفاع والكونغرس والشركات الخاصة على العمل مع الحلفاء لتطوير مواقع استخراج المعادن ومشاريع فصل المعادن النادرة في الولايات المتحدة.
وحاليا، تتعاون الولايات المتحدة مع شركة “لاينس – Lynas” الأوسترالية، أكبر مستخرج للمعادن النادرة في العالم خارج الصين، وكانت وزارة الدفاع الأميركية قد أعلنت أنها ستمنح 30 مليون دولار لشركة “لاينس” لبناء منشأة تكرير التربة النادرة الثقيلة في ولاية تكساس في تموز/يوليو من عام 2020، والذي ينبغي أن يخفف بعض الضغط الذي توفره أي قيود تجارية تفرضها الصين.
واستُكمل ذلك بتمويل إضافي مُنح لشركة “لاينس” في كانون الثاني/يناير من عام 2021 لبناء مركز فصل العناصر النادرة لتلك المعادن المستخدمة في السلع الاستهلاكية.
رغم ذلك كله، الولايات المتحدة على بعد أكثر من عقد من الزمن كي توفر إمدادات محلية ثابتة من المعادن النادرة.
ويقول الجيش الأميركي على موقعه الإلكتروني الرسمي، إنه لن يكون لمشكلة إمدادات المعادن النادرة الدفاعية (التي يحتاج إليها لبناء الأسلحة المتقدمة) أي حلول سهلة.
وينقل عن مكتب مساءلة الحكومة الأميركية أن عملية إصلاح سلسلة توريد المعادن النادرة داخل البلاد ستستغرق 15 عاما.