طفت أوائل هذا الشهر على صرافات كثيرة كي أقبض (على) راتبي التقاعدي.. من صرّاف قريب.. ثم إلى الأبعد، فالأبعد.. وأوصلتني قدماي إلى فرع مصرف، على بابه ستة صرافات.. نصفها خارج التغطية..
والنصف الآخر، أمام كل صراف دستة من طالبي الرحمة.. واستذكرت القول الشعبي: الكحل أفضل من العمى.. ووضعت رأسي خلف رتل من الأرتال.. وقد وصل الدور إلي بعد أن تكسرت مفاصلي، وتيبست ركبتاي.. وكنت محتاجاً إلى استراحة قصيرة.. وضعت نقودي في جيبي، واقتربت من بوّاب المصرف، وأمرته بكل عنجهية: «أريد مقابلة المدير فوراً.. وقل له إني أريده على انفراد!»… فركض البواب مسرعاً، وتبعته متمهلاً متبختراً، ووصلت، فوجدت المدير وقد هب لاستقبالي عند الباب مرحباً.. وأدخلني طالباً مني التفضل بالجلوس.. ورفع سماعة الهاتف وطلب لي فنجان قهوة.. وريثما تصل القهوة، راح يحدثني عن الدقة في عمل فرعه، وعن انضباط العاملين فيه.. وعن السهولة في فتح حسابات للزبائن، وعن اليسر المتاح لهم في سحب ودائعهم… و.. و.. و.. وطلب لي عبر الهاتف فنجان كاباتشينو.. وقد لاحظ أني أنظر إلى لوحة تمنع التدخين في مكتبه.. فقال لي مترجياً: دخِّن أستاذ.. دخِّن، هذه اللوحة لمسايرة التعليمات الرسمية فقط!.. تيقنت أن الرجل ظن أني أحد المفتشين، ولكي يقطع الشك باليقين، قال لي بلهجة الاستفسار: أوامرك مولانا؟.. وأجبته أن لدي ثروة صغيرة، وأريد فتح حساب لي في المصرف!… سألني: وكم تبلع ثروتك؟.. أجبته: خمسة وعشرين… صاح في وجهي: يا رجل.. هل أنت مجنون لتحمل مثل هذا المبلغ في جيبك؟!.. أجبته: يا مولانا، إنه مبلغ يكاد لا يكفي مصروف عائلتي ربع شهر، وأدويتي، ومراجعة أطباء لزوجتي.. ثروتي خمسة وعشرون ألف ليرة، قبضتها من مقام صرافكم العالي… وهنا صاح المدير بأحد حراس المصرف: يا أبو منتوف.. تعال خلّصني من هذه الدودة… خرجت سامق القامة من غرفة المدير وقد غادرَت العصلجة ركبتي، والتعبُ ساقيّ.. وكانت القهوة والكاباتشينو لا تزالان ترفعان من نشاطي.. وحين وصلت إلى البيت، لم تعرفني زوجتي!