الأربعاء, أبريل 2, 2025
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةالواجهة الرئيسيةكيف تختار أن تكون أعمى؟

كيف تختار أن تكون أعمى؟

هاشتاغ – رأي: تيسير حسون

لا تحتاج في سوريا إلى فقدان البصر كي لا ترى. يكفي أن تختار. لكن هذا الاختيار لا يحدث في لحظة وعي، بل يتسلل إليك كعادة سيئة، كإدمان خفيف لا تشعر به إلا حين يصبح جزءا منك. فجأة، تجد نفسك لا ترى إلا ما يُرضي الجماعة، ما ينسجم مع تاريخها وأحكامها المسبقة، ما يحفظ تماسكها.

يُقال إن العقل نعمة، لكنه في مجتمعات مأزومة قد يصبح لعنة. في سوريا، أنت لا تُكافأ على التفكير النقدي، بل على الولاء. الولاء هو العملة الرائجة، والعقل في كثير من الأحيان مجرد بضاعة كاسدة. إذا قررت تشغيله، فستجد نفسك في مواجهة لا قِبل لك بها: مواجهة مع الجماعة، مع التاريخ، مع سطوة العاطفة التي تضعك في خانة الخيانة كلما حاولت الشك.

هنا يأتي دور التشوهات المعرفية، تلك الحيل الذهنية التي تبرر لك ما لا يمكن تبريره، وتمنحك الراحة وسط الخراب. التفكير الثنائي المتطرف يجعل الأمور بسيطة: أبيض أو أسود، معنا أو ضدنا، ضحية أو جلاد. الاستدلال العاطفي يخبرك أن مشاعرك أهم من الحقائق، وأن خوفك كافٍ ليجعل الآخر تهديدا. أما التحيز التأكيدي، فيدفعك إلى البحث فقط عن الأدلة التي تعزز ما تريد تصديقه، رافضا أي رواية تهدد سرديتك المريحة.

في المجتمعات المنقسمة، العقل المستقل ليس مجرد رفاهية، بل خطر. أن تفكر يعني أن تقترب من الخطوط الحمراء، أن تهدد النسيج الهش الذي تبنيه الجماعة حول نفسها لتحمي هويتها. هنا، الغلبة العاطفية تحسم المعركة لصالح الانتماء، وليس لصالح الحقيقة. فأنت لا تفكر لتصل إلى استنتاجات منطقية، بل لتظل متماسكا مع جماعتك. التنافر المعرفي يصبح مؤلما حين تدرك أن سردية الجماعة غير منطقية، ولتجنب الألم، تلجأ إلى إنكار الأدلة أو إعادة تفسيرها وفقا لما يناسبك.

الاستقطاب الاجتماعي يعمّق المشكلة، إذ تصبح كل محاولة للنظر في رواية “الآخر” خيانة. لماذا؟ لأنك حين تفكر بشكل مستقل، فإنك تُجبر جماعتك على مواجهتك، على التعامل مع الأسئلة التي لم تطرحها على نفسها، على مراجعة يقينياتها. وهذا أخطر من أي عدو خارجي.

أما التحيز التاريخي، فيمنحك إرثا جاهزا من التبريرات. سيُقال لك إن جماعات بأكملها كانت دائما خائنة، وإن التاريخ شاهد على ذلك. ما عليك سوى تصديق هذه الحكايات، وإغلاق عقلك أمام أي رواية أخرى، وستعيش مرتاحا، محميا من عذاب الشك.

أن تختار العمى قد لا يكون قرارا واعيا، لكنه قرار في النهاية. إنه الطريق الأسهل، طريق الأقل مقاومة، حيث تصبح جزءا من القطيع دون الحاجة إلى مساءلة أو مواجهة. لكن هناك دائما لحظة ما، خاطفة، تفتح فيها عينيك، ترى شيئا لا يتناسب مع القصة التي صدقتها طوال حياتك. هنا، يكون القرار الحقيقي: هل تغمض عينيك مجددا، أم أنك مستعد لتحمل عبء الرؤية؟

مقالات ذات صلة