هاشتاغ _ أيمن أحمد علوش
إن أعظم الاغتيالات هي تلك التي تغتال علاقتنا وثقتنا بالطبيعة والأرض وعلاقتها وثقتها بنا، كمن مثلاً يُضرم النار بمساحات من أشجار الملكيّة العامّة ليحوّلها إلى أراضي جرداء، ليقومَ لاحقاً باستثمارها وإدخالها ضمن ممتلكاته الشخصيّة، أو من يُضرم النار في الغابات للاستفادة من حطبها وبيعه لسوق التدفئة أو سوق الأركيلة، وربما أيضاً لاستملاكها بقوّة الفساد إذا سمحت سلطته بذلك، ومن يلّوثها ويعتدي على أمومتها ورائحتها وقدرتها على العطاء.
ينطبق ذلك بشكل أبسط على من بحاول غش العصافير بآله تطلق ما يشبه صوت العصافير، فتقترب منها وتقع في شركٍ قد نصبه لها صياد رخيص لا يحمل صفة الفروسيّة، فما ذنب من اعتاد من البشر على سماع صوت العصافير وهي توقِظه، أو وهي ترافق تأملاته ليفقد ذلك الإحساس الجميل، وما ذنبه ليخسر ثقة العصافير به وبالمكان وحتى ببني جنسها، فالذي أخذها إلى شرك الصياد وهلاكها هو صوت يشبه صوت بني جنسها.
قد يقول قائل إن ممارسات كهذه لا تنطبق على كلّ مكان وزمان. بالفعل فإنّ ممارسات كهذه قد ارتبطت بشكل رئيسي بدول لم تعطِ للطبيعة حقّها، فكانت قوانينها غير كافيّة لوضع ضوابط لكثير من ممارسات الاعتداء على الطبيعة، هذا من جهة، ولكن، وبشكل أكبر، بسبب عدم عمل كثير من الدول بقوانين كانت قد وضعتها لضبط حالات الاعتداء على الطبيعة بسبب الفساد، من جهة ثانيّة.
وقد يقول قائل أيضاً بأن ممارسات كهذه ارتبطت بالمجتمعات التي لديها فائض طبيعة، أو أن وضعها الاقتصادي يحتّم على مواطنيها ألا ينظروا للطبيعة بمختلف مكوّناتها، كعنصر جمالي، بل مصدر رزق لهم، فهؤلاء المحتاجين لا يعنيهم تلوث الطبيعة وثقب طبقة الأوزون والاحتباس الحراري وجمال الطيور والغزلان، فكلّ ما يشغلهم هو أن لا يسمعوا صرير جوع أمعائهم وبرد شتاءاتهم وألم فقدان أبسط احتاجاتهم.
يقول جبران خليل حبران ” الثلج للفقير ألم وللغنيّ ديكور ، وللأديب وحي”، وربّما هذا يختصر في جانب من جوانبه مسألة العلاقة مع الطبيعة، فما تدعو إليه أحزاب الخضر والبيئة في الدول المتقدّمة هو غير ما تراه أحزاب الجوع والفقر والمعاناة في كثير من دول العالم الفقيرة، وهذا لا يعني إطلاقاً أنّ الدول الصناعيّة والمتطورة هي أكثر حرصاً على الطبيعة، حيث أنَ ما تلوّثه بصناعاتها ومخلّفات صناعتها ورفاهيّة حياة مواطنيها من تلويث للبيئة هو أكثر بكثير مما يحصل في الدول الفقيرة، ولكن شعارات الحفاظ على البيئة في هذه الدول لا تنفكّ تنطلق هنا وهناك دون أن تُسهم فعليّاً في إجراءات حقيقية للتخفيف من التلوّث، ونلاحظ أنّ سياسات الدول الصناعيّة في هذا الاتجاه قد حرمت معظم القارة الإفريقية من المشاريع الصناعيّة التي ترفع من معدّل التلوث، لأنها ببساطة تريد للقارة الإفريقيّة بغاباتها وخضارها أن تبقى رئة الكوكب التي تُساهم في تنقيته، حيث ترى أنّ أيّ تحوّل صناعي فيها سوف يزيد من تلوثها ويقلّل من اعتماد مواطنيها على الزراعة و من فقرها، وهذا ما لا تريده تلك الدول.
في الحالة السوريّة؛ اجتمعت كثير من العناصر التي جعلت الاعتداء على الطبيعة في أقسى حالاته، فعدم توفر الوقود والكهرباء جعل الأشجار والغابات وسيلة التدفئة وتلبية الاحتياجات المنزليّة من تحضير طعام وغسيل واغتسال لأبناء الريف، ويزيد من الجور على الطبيعة العامل الاقتصادي وعدم قدرة المواطن على تسديد ثمن مخصّصاته من مادتي الغاز والمازوت، والتي لا تكفي في أحسن الحالات إلّا لعدة أيام، بل إن كثيرين يلجؤون لبيع مخصصاتهم، بالرغم من حاجتهم الماسّة لها، بسعر السوق السوداء لتلبية احتياجات ضرورية اخرى، معوّضين ذلك بمزيد من الجور على الطبيعة.
ويزيد من حدّة الحالة السوريّة الوضع الاقتصادي العام ونقص التشريعات وغياب العقوبات الرادعة وثقافة الحفاظ على البيئة التي يجب أن تكون مادّة تدرّس للطلاب في كافة مراحل الدراسة، ابتداءً بترشيد استخدام المياه وصولاً إلى أدق تفاصيل الحفاظ على الثقة بين الإنسان والطبيعة، وبجب أن يرافق ذلك سياسات حكومية متكاملة توفر كلّ مستلزمات التوعية والإرشاد، وفي نفس الوقت القانون والعقوبات الرادعة.
في إحدى جلسات مجلس الشعب السوريّ أثار أحد النوّاب مسألة الأسمدة والمبيدات الحشريّة المغشوشة في الأسواق، وذكر أنّ معظم ما وصل منها للساحل السوري كان مغشوشاً وغير فعالٍ، وعلمتُ أن وزارة الزراعة أرسلت عيّنات من الأسمدة والمبيدات إلى الكلّيات المختصّة في الجامعات لبيان الواقع، وعلمت أيضاً أن الجامعات قد أكّدت للجهات المختصّة أنّ المادّة الرئيسيّة للعيّنات التي وردتها هو الملح، وهذا يعني ليس فقط التكلفة الماديّة على المزارع، وإنّما أيضاً عدم استفادة المزروعات وتضرّر التربة بالملوحة، وما لذلك من تأثير في عدم توفّر محصول جيد، وبالتالي ارتفاع سعره في الأسواق من جهة، وكذلك تملّح التربة وتراجع ملاءمتها للزراعة وما لذلك من آثار سلبيّة بعيدة المدى، من جهة أخرى.
قد يكون أكثر ما يعنيني في هذه القضيّة ليس فقط أن يفقد الإنسان الأمل بالأرض والطبيعة التي تعوّد دائما أن يلجأ إليها ويستكين بها ومعها، وإنما أيضاً عدم ثقة الأشجار والأرض والطبيعة بالإنسان نتيجة جوره عليها بهذه الطريقة المؤلمة، فـ للأشجار والأزهار والتراب أرواح، ولا بدّ من أن تحافظ على علاقتك مع الأرض التي ستنتهي إليها ذات يوم حتى تحتضنك بحبّ.
لكل هؤلاء أقول: لا تغتالوا علاقتنا بالأرض