هاشتاغ-نبيل صالح
1
لايبقى من المرء بعد موته سوى كلماته الجيدة، لذلك فإن الشعراء والكتّاب والمفكرين هم الأكثر هوساً بالخلود بيننا. ففي البدء كانت الكلمة، ولايمكننا معرفة الله من دون الكلمة، لهذا أوصى عباده المؤمنين بالقراءة، غير أن القراءة قبل اختراع الكتابة لم تكن تعني ما تعنيه بعدها، فأن تقرأ الطبيعة أو الناس يعني أن تستكشف باطنهم، وعندما أمر الربُّ عبده ورسوله الأمي محمدا بالقراءة لم يكن يقصد تفكيك الحروف والكلمات المكتوبة في بلاد لا كتب ولا مكتبات فيها؛ إذ أن الخط والنحو العربي لم يكتملا حتى القرن الهجري الثاني وكانت الثقافة العربية شفوية، ولعل الربَّ كان يقصد قراءة معجزاته في الأرض من أجل فهم أفضل للحياة.
قبل الديانات الإبراهيمية سادت المبادئ الهرمسية الباطنية وتأثرت بها ديانات العالم القديم قبل انتشار الكتابة بين العامة، حيث كان المعلم هو الأب الروحي لتلاميذه الأميين، يعطيهم تجربته مشافهة وتربطهم رابطة الأخوة الروحية.
فكانت الصلاة تعني قضاء وقت في التأمل والتفكير والاكتشاف وتحقيق التوازن الروحي ( لكائن يعيش في رمية النرد)، فكانت الصلاة تفكيراً وتأملاً يرتقي الفرد به في درجات المعرفة والتماهي مع العقل الكلي الذي هو الله.
لكن بعد اختراع الكتابة استرخى عامة القراء والحفظة وباتوا يأخذون تجارب الآخرين (ديلفري) جاهزة من نصوص الحكمة المدونة، بينما تقتصر جهود المستهلكين على التجويد والمقارنة بين شروح الفقهاء.. فصارت القراءة تسميعاً يأتي من أرشيف الذاكرة أكثر منها تفكيراً يحرك الوعي، وبات أغلب الناس يتشابهون في معلوماتهم وطرق تفكيرهم، حتى صلاتهم باتت تسميعاً لنصوص محفوظة يقولها كائن خائف من ربه القهار، يتقرب له بالصلاة خوفا من عذابه وطمعا بجنته، فلم تعد الصلاة تأملاً ومعرفة وحكمة بقدر ماغدت عادة وطقساً.
وهكذا بات الأفراد أقرب إلى برامج تسميع وتلقين محفوظات ، تنضوي ضمن برامج المؤسسات الرسمية أو البرامج المعارضة لها: مجرد قطعان بيضاء وسوداء، هولندية أو شامية، وحتى كلابها الحارسة ورعيانها أصبحوا مبرمجين على أنساق محفوظاتهم الجامدة التي لاتتدفق في الزمان، فاتفق على تسميتهم جماعة النقل لا العقل، حيث يكثر هؤلاء في الشرق الأوسط ويحاربون من يقرأ ويجتهد خارج محفوظاتهم، فيكفروه ويعاقبوه بتهمة الهرطقة والخروج على الأنساق الدينية والسياسية السلفية، ويعملون جهدهم للعودة بالزمن إلى الخلف مستعينين بأرشيف السلف الصالح، بدلاً من التقدم للأمام مع اكتشافات المفكرين والعلماء المعاصرين، فيعارضون المنطق والعقل وحركة التاريخ هازئين بهيغل وكل فلاسفة العالم، مثلما سخر أجدادهم من تهافت الفلاسفة قبل أن يحرقوا كتبهم !؟
2
بعد اختراع الكتابة وتوفر الكتب بين أيدي الناس انتشرت لعبة المثاقفة والمفاقهة، وبات كل فقيه ومثقف يتبنى نصوصاً وأفكاراً تناسبه ليستخدمها ضد النصوص التي يتبناها خصومه، فنشأ صراع النصوص وحرب الأفكار، وهي أطول حروب التاريخ وآثارها ماتزال ماثلة في أدمغتنا وفي سلوكنا، إذ هُدر جزء كبير من جهد الناس وحياتهم في هذه الحروب.
وفي كتاب “جمهورية أفلاطون” يحاور سقراط مثقفي أثينا ويقودهم عبر لعبة الأسئلة ليصل بهم في نهاية الحوار إلى أن يقولوا نقيض كلامهم في بدايته! ذلك أن أفلاطون كان يريدنا أن لانقع في شرك اليقينيات التي ينقضها الزمن، وأن ندرك أن السؤال أهم من الجواب، وأن معرفتنا جزئية، وقد تكون أحيانا وهمية، وقد مهد بذلك لفلاسفة الشك الذين أزالوا الكثير من أوهام الأوربيين!
وعندما قرر الرب أن يقدم وصاياه للبشر بعد مرور مليون سنة على وجودهم الأرضي، أوحى لرسله بكلماته، ورغم أن الرسل لم يقوموا بتدوين رسائل الرب لحكمة ما فإن رفاقهم فعلوا! وبما أن الكلمات لا تقول الأشياء بحرفيتها وقد تعطي معانيَ وإيحاءات مختلفةً بين الناس، فقد اختلف الناس على الشروح ونشأت مذاهب ومدارس فقهية تصارعت فيما بينها، حيث شرح فقهاؤها النصوص بما يناسب سياستهم ومصالحهم وثقافتهم، وباتت نصوصاً قاتلة أكثر من كونها راعية وحامية لعموم الناس، بحيث يمكن لمسلمين ينتميان إلى المذهب نفسه أحدهما من تركستان والآخر من سورية أن يتفقا على قتال مسلم آخر في سورية من غير طاثفتهما ولكنه يختلف معهما في تفسير نصوص القرآن الكريم! لهذا يجب أن نعود إلى فهم كلمة “اقرأ” بمعنى فكّر وليس بمعنى تسميع النصوص وتقديم امتحانات فيها والحصول على شهادات مدرسية وجامعية لا تؤهلك لأن تفكر خارج حدود المنقول!؟
يقول برنارد شو: كنت طفلا أراقب الأشياء وأتعلم.. ثم أدخلوني إلى المدرسة، ومن يومها توقفت عن التعلم!
3
بدأ التاريخ البشري مع وجود العقل الشفهي، وسميت الثديات الناطقة بالإنسان العاقل، وكان العقل الإنساني سائلاً ومتدفقاً ببركة الله ومهارة القراءة المتجددة للحياة، إلى أن تم تدوين الكلمات قبل أربعة آلاف عام على يد أسلافنا الذين عاشوا في رأس شمرا شمال اللاذقية بهدف نقل الوعي بين البشر وليس لكتابة الخطابات الخشبية والتصريحات الخلبية والتقارير الأمنية والشكاوى الكيدية التي يستخدمها بعض السياسيين والمخبرين والمراقبين الفاسدين ضد مواطنيهم، ويستغلها بعض موظفي المؤسسات الأمنية لتطويع الناس بدل إصلاح أحوالهم، بدليل ما وصلنا إليه بعد مرور ثمانين عاما على تأسيس الدولة الأمنية على يد المشير عبد الحميد السراج، أيام الوحدة السورية المصرية، حيث كانت مظالم مؤسسته المكملة لمؤسسة صلاح نصر الأمنية في مصر سبباً في إضعاف الدولة الناصرية وتحول الوحدويين السوريين إلى انفصاليين ، بعدما تحولت أعمال المؤسسة الأمنية من حماية الوطن إلى حماية السلطة، بينما بقي جهاز “الموساد” الصهيوني قوياً لأنه يخدم الكيان لا السلطة، وباستطاعة أي رئيس شرطة استدعاء رئيس الوزراء فيما لو خالف القوانين، وبذلك تفوق عدونا علينا بتوجيه جهده الأمني لقراءة مكامن ضعفنا، بينما بعض موظفي مؤسساتنا الأمنية مشغولين بإضعافنا وتقييد حريتنا واستغلال مناصبهم أكثر من حمايتنا!؟ ولو أن مسؤولينا يقرؤون كتب خبرائنا ومفكرينا ويستمعون لهم بدل قراءة تقارير مخبريهم لكانت مؤسساتهم أقوى وحالنا أفضل..
4
وبما أن المؤسسات الأمنية الضاربة في المجتمعات العربية هي الأقوى بين بقية المؤسسات، فقد قررت أن أكون قوياَ على طريقتي، فاستخدمت أسلوبها في تجميع المعلومات ونشرها، ولكن من أجل الناس وليس ضدهم، حيث كل فرد كنت أساعده في حل قضيته وإيصاله إلى حقه كان يجب عليه أن يوفي دينه حين أحتاجه في معالجة مظلمة أخرى؛ وقد يكون موظفاً في ديوان وزارة الداخلية أو حاجباً عند وزير أو موظفاً في التموين أومراسلا في غرفة الصناعة أو أو.. وعليهم تزويدي بالوثائق والمعلومات حين أحتاجهم في القضية التي أشتغل عليها.
وهكذا كبر فريقي الاستخباري وتوسع بعدد الناس الذين لم ينسوا دينهم خلال بضعة عقود من عملي الصحفي، إذ كنت أدفق الفضيحة بشكل ساخر، فأحرج وزراء وقضاة ومستثمرين ومسؤولين، وأحجز على أموال فاسدين كبار وأدخلهم السجن بأحكام متفاوته، وحين يرفعون دعاوى ضدي تكون وثائقي وشهودي إلى جانبي بحيث أنني لم أخسر قضية خضت فيها، بفضل القراءة السائلة لمظالم الناس الذين كبرت بهم واستظلوا بقراءتي لمشاكلهم، وهذا ما أحاول نقله إلى الصحفيين الجدد حين يرغبون بالاستماع إلي.
لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام
انظر ياعزيزي: أنت صياد والقارئ سمكة وأول جملة تكتبها هي الدودة التي تصيد بها السمكة، ثم تنتقل إلى موضوعك بعما تتأكد أنك ورطته بالقراءة، فالجمهور قوتك وقوّتك، وهو جمهور قاس ولكنه يحب العدالة، ولاتنسَ المقبلات بين مقطع وآخر فاستشهد بما يثير الابتسامة وأثر شهيته بقليل من البذاءة التي تشبه الواقع، حيث يمكنك أن تلتقط الأخطاء وتضخمها بشكل كوميدي أو تراجيدي من أجل التأثير على أصحاب القرار المعنيين بحل القضية التي تنشرها.
استدرّ دموعهم من شدة الحزن أو الضحك ولا ترحم عواطفهم لأنهم من دونها موتى بلا أرواح، وكلماتك هي ما يجب أن ترد الروح وتحيي الموتى ليكونوا جيشك وقوتك. وفي الختام لاتقل شيئا لاتستطيع تأكيده بالوثائق والشهود أمام القضاء كي تحمي نفسك وتحافظ على مصداقيتك التي قد تنهار بخطأ واحد ترتكبه، فسمعة الصحفي زيّ عود الكبريت.
5
حفظت جزء “عَمَّ” في سن العاشرة ولم أعِ أغلب كلماته ومعانيها، فقط لأن والدي يريد ذلك، وكان يعطيني ليرة سورية كلما قرأت بعضاً من السور أمام أقاربنا المشايخ الذين تربى والدي في حجرهم، حتى ظننت نفسي من المبشرين بالجنة من كثرة ثنائهم علي! وعندما قال لي معلم الصف اقرأ يا نبيل.. أجبته بفصاحة أحمد مظهر في أفلامه التاريخية: ما أنا بقارئ! متوقعاً أن يكمل الآية: “اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم..” غير أن معلمي العصبي صرخ بي وقال: لتكون مفكر حالك النبي وجاييتك الرسالة! مقلك قرا الدرس يا.. وبالطبع أصعدني إلى كرسي الخيزران واستخدم الأسلوب التربوي المعتاد في أيامنا: فلقة بالعصا أمام الرفاق.. غير أن أكثر ما أحزنني حينها معاقبة زميلي دانيال أيضا بفلقة معتبرة لأنه ضحك من جوابي وتعصيب المعلم.
وكان دانيال يأكل فلقة من كل المعلمين كل يوم لأسباب غير مفهومة ولكن على الأغلب كي يرهبوا به التلاميذ المشاغبين، حيث كان يردد معلمنا باعتداد بعد كل فلقة يتلقاها دانيال: كونوا رجال متل دانيال ولا تتبكبكوا وتهرهروا دموعكم متل النسوان! فيما بعد علمنا أن دانيال اليتيم لديه تشنج عصبي حيث يبكي من دون صوت وعيناه لاتفرزان الدموع، مثل مواطنينا الذين يصرخون اليوم من دون صوت ويبكون من دون دموع، لأنهم لم يتقنوا قراءة الطريق الذي أوصلهم إلى الفلقة، ولأن بعض المعلمين الفاشلين يريدوا أن يربوا فيهم الأمم، كما كان يقول معلمنا وهو يهوي بالعصا على أرجلنا الصغيرة !؟