سيصيب سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد “محور المقاومة” بالشلل، وسيخلق له تهديدات وجودية، فنهايته يعني قطع الصلة البرية بين إيران ولبنان، وحرمان إيران من قدرات التصنيع العسكري التي كانت موجودة على الأراضي السورية.
واعترف وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، ضمنا بهذه الخسائر عندما حاول التهوين من شأنها بقوله، في 8 كانون الأول/ديسمبر، إن “حزب الله” لديه “من السلاح والإمكانيات ما يكفيه لسنوات، وحزب الله لن يعاني من مشكلة خاصة مع التطورات في سوريا”.
ولكن مهما عظم مخزون سلاح “حزب الله” فهو سينضب يوما ما، خصوصا إذا ما تكررت المواجهات العسكرية مع “إسرائيل”.
واتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 27 تشرين الثاني/نوفمبر لا يزال هشا، و”إسرائيل” لا تزال تعتبر نفسها في حالة حرب مع الحزب اللبناني.
في الداخل اللبناني نفسه، يواجه “حزب الله” تهديدات متصاعدة تعرّض نفوذه وبقاءه للتهديد، فبُعيد توقف إطلاق النار مع “إسرائيل”، حرص مع حركة “أمل” على تحريك ملف انتخاب رئيس الجمهورية عبر اختيار التاسع من كانون الثاني/يناير 2025 ليكون موعد انتخاب الرئيس الجديد، وإنهاء شغور موقع الرئاسة المستمر منذ تشرين الأول/أكتوبر 2022.
وكان المرشح الأبرز المقرب من الثنائي الشيعي سليمان فرنجية، المنحدر من العائلة السياسية المارونية المتحالفة مع آل الأسد منذ زمن جده الرئيس اللبناني سليمان فرنجية (1970-1976).
إلا أن حظوظ فرنجية الحفيد تبدو وقد تبخرت بعد سقوط حليفه السوري، ويبدو من المشكوك به أن ينجح “حزب الله” بتمرير انتخاب رئيس جمهورية موال له.
كما بدأت بعض الأصوات السنية في لبنان بالارتفاع ضد هيمنة “حزب الله”، مع استشعار تأثيرات انتصار المد السني في سوريا وإجباره إيران و”حزب الله” والميليشيات الشيعية المختلفة على الانسحاب من المسرح السوري.
في مقابل هذا، تدرك إيران اليوم أن نفوذها في لبنان، بل في كل المشرق العربي، يتطلب منها أن تستعيد بعضا من نفوذها الذي خسرته بسقوط النظام السوري، وأن تستعيد تحديدا القدرة على نقل السلاح والدعم المالي والمستشارين عبر سوريا إلى لبنان.
إلا أن إيران تعلم باستحالة فتح صفحة جديدة مع حكام سوريا الجدد، الذين لعبت دورا محوريا في قصفهم وقتالهم لأكثر من عقد من الزمن، لهذا قد لا تجد طهران مفراً من تكرار تكتيكاتها السابقة التي استخدمتها في كل من العراق واليمن وأفغانستان، بل وحتى باكستان، وذلك عبر دعم واستقطاب بعض القوى المحلية في هذه البلدان لخدمة الأجندة الإيرانية، بالرغم من مواقف حكومات تلك البلدان، بحسب ما أورده موقع “إرم نيوز”.
حالة الضعف التي تعيشها سوريا اليوم بعد سقوط نظام الأسد، وبعد الاستهداف الإسرائيلي الواسع للقدرات العسكرية للجيش السوري، تعني أن أي حكومة سورية مقبلة ستبقى ضعيفة وغير قادرة على فرض سيطرتها بإحكام على عموم البلاد، كما سيبقى هناك احتمال كبير بتفجر الاقتتال مستقبلاً بين الفصائل السورية المسلحة التي تشاركت هدف إسقاط النظام السوري السابق.
هذا الضعف المتوقع في بنية الحكم الجديد في سوريا سيترك لإيران بعض الفرص المحتملة لإعادة بناء نفوذها في سوريا.
بمراجعة تاريخ تحالفات وعلاقات وتكتيكات إيران في المنطقة، يمكننا أن نتوقع أن تستخدم إيران بعض أو جميع الأدوات التالية في سوريا: المجتمع الشيعي السوري، الفصائل الفلسطينية، والأحزاب الكردية.
وانخرط المجتمع الشيعي في سوريا بشكل كامل في الخطط الإيرانية بالسنوات الأخيرة، بما في ذلك عمليات التغيير الديموغرافي لبعض المناطق السورية، ومحاربة فصائل المعارضة.
وبات معارضو النظام السابق ينظرون إلى هذا المجتمع الشيعي على أنه خصم حتمي، وأن ولاءه سيبقى لقوى خارجية.
من الصعب إحصاء حجم الوجود الشيعي في سوريا بشكل دقيق، فمن ناحية أولى، هناك بعض البلدات المعروفة منذ عقود بكونها ذات غالبية طائفية شيعية، مثل بلدات نبل والزهراء، في حلب، وكفريا والفوعة في إدلب. ولكن هناك أيضا بعض المكونات السنية التي نجحت إيران بالترويج لكونها شيعية أصلاً وتسننت لاحقاً.
المثال الأبرز هو قبيلة “البقارة”، المنتشرة بين حلب والشرق السوري، والتي روجت إيران لسردية كونها قبيلة شيعية في الأصل، وأن اسمها يشير إلى علاقة أفرادها بالإمام محمد الباقر، خامس الأئمة الاثني عشر لدى الشيعة.
وقد أسست إيران في 2015 “لواء الباقر” الذي يضم عدة آلاف من أبناء هذه القبيلة، والذي شارك في العمليات العسكرية إلى جانب الجيش السوري والميليشيات الإيرانية في كل من حلب ودير الزور.
لإيران أيضا علاقة وثيقة بالعديد من الفصائل الفلسطينية المقيمة في سورية، وباستثناء حركة “حماس” التي توترت علاقتها مع النظام السوري على خلفية دعم الحركة لفصائل المعارضة السورية، فقد ظلت العلاقات قائمة بين النظام السوري وإيران، من جانب، مع باقي الفصائل الفلسطينية.
وبعض هذه الفصائل انخرط على نحو صريح في الحرب إلى جانب الجيش السوري ضد فصائل المعارضة، كما هو الحال مع “لواء القدس” الموالي لإيران، و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة” التي أسسها أحمد جبريل، والتي شاركت بدورها في الحرب الأهلية السورية إلى جانب الجيش السوري، وحتى حركة “الجهاد الإسلامي”، التي احتفظت بعلاقات جيدة مع النظام السابق، اتخذت موقفا محايدا إزاء سقوط النظام السوري، إذ أصدر الأمين العام للحركة، زياد نخالة، بيانا مقتضباً، في 9 كانون الأول/ديسمبر، اكتفى بالقول إن حركة “الجهاد الإسلامي” تعتبر “ما حدث في سوريا هو شأن داخلي، يتعلق بخيارات الشعب السوري”.
من المحتمل أن تضغط إيران مستقبلاً على هذه الفصائل الفلسطينية لكي تخدم الأجندة الإيرانية في سورية، وتمرر الدعم والمساعدة إلى “حزب الله” مقابل استمرار الدعم الإيراني لهذه الفصائل الفلسطينية.
ومن القوى الفاعلة الباقية على الأراضي السورية التي يمكن أن تستخدمها إيران نجد الأحزاب الكردية، إذ إن علاقة إيران بالأكراد في المنطقة هي علاقة إشكالية، حيث تدعم إيران بعض الأحزاب الكردية، وتحارب بعضها الآخر.
وفي سورية، دعمت إيران “حزب العمال الكردستاني” (PKK) التركي وفرعه السوري “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD) الذي شكل نواة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تدعمها الولايات المتحدة.
كما دعمت إيران هذه الأحزاب في سوريا في كل مرة توترت علاقتها بالنظام السوري، كما دعمتها في مواجهة العمليات التركية، خصوصا عملية “غصن الزيتون” في منطقة عفرين في 2018.
والهجوم الأخير لـ”هيئة تحرير الشام” وباقي فصائل المعارضة السورية ركز على النظام السوري، وعلى “قوات سورية الديمقراطية”.
وفي ظل ترجيح انسحاب القوات الأميركية من سوريا خلال ولاية ترامب الثانية، ستزداد الضغوط على الأحزاب الكردية التي ستواجه احتمال خسارة كل المكاسب التي حققتها منذ بداية الحرب الأهلية السورية، وأن تبقى بدون حليف دولي، وهذا ما يمكن أن يدفعها لطلب مساعدة إيران التي ستجد في الوجود الكردي في الشرق السوري على حدود العراق، بوابة محتملة لمد نفوذها عبر سوريا.
إن مدى نجاح إيران في تجنيد أي من هذه المكونات لخدمة أجندتها في سوريا سيتناسب بشكل طردي مع فشل حكام سوريا الجدد في بناء مؤسسات أمنية وإدارية قوية، واتجاههم نحو الاقتتال والتنافس.
والأكيد أن إيران لن تتخلى عن السعي لإعادة بناء نفوذها في سوريا، فدون ذلك احتمال سقوط كامل “محور المقاومة” وبروز احتمال استهداف النظام الإيراني نفسه.