هاشتاغ – يسرى ديب
لا تبدو خيارات الحكومة السورية في أحسن حالاتها بموضوع تأمين حاجة السوق المحلية من الدواء!
أصحاب المعامل يطالبون بطريقة تسعير مرنة تواكب ارتفاع أسعار المواد الأولية كما يحصل مع كل السلع الأخرى، كما عبّر أحدهم في حديثه لـ”هاشتاغ”، بينما الجهاز الحكومي برمته بات يتهيب اتخاذ المزيد من قرارات رفع الأسعار، خاصةً لمادة مثل الأدوية، وقد يكون الدليل على ذلك الطريقة شبه السرية، التي صدر فيها القرار الأخير برفع أسعار بعض أنواع الأدوية بنسبة 30%.
“هوة كبيرة”
منذ 2013 وحتى العام الماضي تمكنت الحكومة أن تجمد سعر الدواء وتجعله خارج تذبذبات الأسعار، ولكن بعدما ضاق أصحاب المعامل ذرعاً بما أسموه “الهوة الكبيرة بين التسعيرة الرسمية وتكاليف الإنتاج”، وبدأت أنواع كثيرة تختفي من الأسواق، مع ظهور سوق سوداء للدواء، ناتجة عن إحجام الكثير من المعامل عن إنتاج هذه الأنواع المطلوبة من الأدوية كأدوية الضغط والسكري والصادات الحيوية…الخ. صدرت الزيادة الأولى لأسعار الأدوية في الشهر السادس من العام الماضي، بعدما أصبحت مشاكل الحصول على الدواء كثيرة.
وجاءت الزيادة بنسبة وصلت إلى 50% لنحو 12 ألف صنف دوائي. لكن هذه النسبة لم تنل رضى منتجي الدواء الذين كانوا يرون أن أي زيادة لا تصل إلى 100% ليست منصفة.
لم يمض الكثير من الوقت حتى تبين أن الوضع لم يتغير كثيراً في سوق الدواء، وأن السوق السوداء تنتعش يومياً، وبعد أشهر اضطرت الحكومة لرفع جديد للأسعار بنسبة وصلت إلى نحو 30%. ترافقت الزيادة على أسعار الأدوية، بزيادة على الرواتب والأجور بنفس النسبة، حيث كان الفاصل يوماً واحداً بينهما، وهذا التزامن وصفه مدير معمل أدوية بأنه فرّغ زيادة الأجور من محتواها.
بالقطّارة
يمكن لأي متابع أن يرى طريقة رفع أسعار الأدوية التي تحاول الحكومة تجنبها قدر الإمكان، إذ أن الزيادات كما وصفها بعض منتجي الدواء “تأتي بالقطارة، ولا تغطي التكاليف، ولم تساهم في توفر الكثير من أنواع الأدوية”، وفي الوقت ذاته لم يرضى المواطن لا عن هذه النسبة ولا غيرها، لأن أغلب الناس تعاني من صعوبة شراء الدواء بأسعاره الأقل عالمياً، فكيف الحال مع هذه الزيادات؟
بالمقابل؛ هنالك من يرى أن توفير الدواء بسعر مرتفع، خيار أفضل من انقطاعه.
لم يتأخر الوقت كثيراً على رفع ثالث للأدوية جاء بعد مرور نحو شهرين على القرار الثاني لرفع السعر، وشمل هذه المرة أدوية الصادات الحيوية بنسبة 30%.
هل تكفي؟
هل اكتفى أصحاب المعامل بهذه النسبة، وهل غطت تكاليف الإنتاج عندهم؟
تقول الصيدلانية دارين سليطين لـ “هاشتاغ” إنه في اليوم الثاني لقرار رفع سعر الدواء توافرت الصادات الحيوية بمختلف أنواعها، ولكل الشركات، وهذا يعني، حسب رأيها، أن التسعيرة الجديدة قد تكون مرضية لأصحاب المعامل، لأن الدواء توفر، على عكس الأنواع الأخرى التي لم تشملها التسعيرة وظلت تباع بالسعر الحر، ومن بين هذه الأنواع الحقن المسكنة، ومضادات الإقياء وأدوية التشنج.
أضافت سليطين أن هذا الحال يعني أنه يجب رفع التسعيرة لكل حاجة السوق من الأدوية حتى تتوافر.
أحد طالبي الدواء في صيدلية بحي الميدان قال لهاشتاغ، إنه من بين كثيرين يعانون من عدم توافر طلبهم من الأدوية، وإنه في كل مرة كان يشتري الأدوية التي تحتاجها والدته للضغط والسكري بالسعر الحر، وهذا إذا وجد طلبه.
فإما أن يحصلوا على الدواء بسعر مرتفع جداً، وإما ألا يجدوه في الصيدليات فيضطرون لشرائه بأسعار أعلى أو بطرق أكثر خطورة كالتهريب مثلاً.
تسعيرة ظالمة
الخيار بين هاتين الثنائيتين قد يجعل الأرضية مهيأة لتقبل المزيد من أخبار رفع أسعار الدواء. مدير معمل أدوية، لم يرغب بذكر اسمه، أكد لـ “هاشتاغ” أن الزيادات التي يحصل عليها منتجو الدواء غير مرنة ولا تغطي تكاليف الإنتاج التي ترتفع كل يوم.
وأضاف أن أسعار الخبز ارتفعت من 15 إلى 1300 ليرة، ولم تأخذ الجهات المعنية أي اعتبار لمشاعر المواطنين، “فلماذا يهتمون بمراعاة مشاعرهم عندما نطالبهم بتسعيرة منصفة للدواء” حسب وصفه.
وقال إن جميع السلع بما فيها تلك التي ينتجها القطاع العام ترتفع أسعارها بما يواكب تكاليفها باستثناء الأدوية، مضيفاً أن وزير التجارة الداخلية عندما يرفع سعر عبوة الماء مثلاً يذكر مبررات ذلك بعرض التكاليف الجديدة، علماً أن عبوة الماء عبارة عن “قنينة” فيها ماء فقط، فلماذا لا يطبق هذا المعيار على الدواء؟
وعرض مدير المعمل بعض الأسعار الجديدة للمواد الداخلة في صناعة الدواء، فمثلا سعر كيلو ملح الليمون المستورد ارتفع من أربعة آلاف ليرة إلى 25 ألف ليرة خلال فترة قصيرة، مبيناً أنها مادة تدخل في تصنيع الدواء، وكذلك الملح، بل إن مادة مثل الكحول، والتي يتم استجرارها من معمل يعود للقطاع العام في حمص ارتفع سعر الطن منها من 3 إلى 8 ملايين ليرة في ظرف أشهر، لأن المواد الأولية الداخلة في تصنيعه أيضاً مستوردة.
ووجه المدير العتب على وزير الصحة الذي يحضر اجتماعات الحكومة ويطلع على قرارات رفع أسعار مواد داخلة في صناعة الأدوية دون أن يطالب بمعاملة مماثلة للدواء.
وكشف أن معملاً كمعملهم يحتاج أسبوعياً إلى 5 أطنان من الكحول، وهذا يعني أن التكاليف من هذه المادة فقط ارتفعت من 10 ملايين في العام الماضي إلى 80 مليون ليرة حالياً.
وأضاف أن تسعير الدواء يجب أن يكون كغيره من المواد، يتم بشكل مرن مع كل ارتفاع في تكاليف المواد الداخلة في صناعته، فبعد “كورونا” ارتفعت التكاليف؛ خاصةً تكاليف الشحن حيث ارتفع سعر الحاوية من 2000 إلى 16 ألف دولار.
وأشار إلى أن الحكومة رفعت أسعار كل السلع التي توزع عن طريقها، كالمحروقات والسكر والخبز وغيرها من المواد، ولكن في موضوع الأدوية فقط تصبح المعايير مختلفة!
وعاد المدير ليؤكد أنه بدون طريقة عمل مختلفة في التسعير وشروط الاستيراد لن يتوفر الدواء بالشكل المطلوب، وسيظل هنالك سوق سوداء، بسبب إعاقة عمل المعامل. ومثاله على ذلك هو النقص الكبير في “فلاتر غسل الكلية” حيث أن بعض تعديلات البنك المركزي في إجراءات الاستيراد أوقفت وصول الشحنات إلى المشافي.
لكل هذا طالب المدير بضرورة تسهيل شروط الاستيراد، لأن كل المواد الأولية الداخلة في صناعة الدواء مستوردة.
وعن أكثر معوقات الاستيراد، قال المصدر إن تدقيق البنك المركزي وملاحقته المستوردين لمعرفة مصدر القطع الذي يمتنع عن تأمينه لهم، ولا يدعهم يؤمنوه بطرقهم الخاصة هو من أهم المشكلات التي يواجهونها عند استيراد المواد الداخلة في صناعتهم.
وبين أن المستوردين بإمكانهم الالتفاف على العقوبات وتسيير أمور العمل، شريطة منحهم التسهيلات، مضيفاً أن دولة مثل إيران تتعايش مع العقوبات منذ عقود, ويمكن لرجال الأعمال في سورية فعل الشيء ذاته ببعض التسهيلات، لكن منع الحديث عن الدولار، وتقييده، والتدقيق على مصدره، هذه كلها قضايا تعرقل العمل.
وعن التسهيلات التي تقدمها الحكومة لمعامل الأدوية لتخفيض تكاليف المنتج كالضرائب المخفضة، والدولار المدعوم، قال إن ما يقدم لا يكفي لترميم الهوة بين التكاليف والأسعار.