الأحد, ديسمبر 22, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

مفارقات وصور..

نضال الخضري

ربما سيمضي عام قبل أن نسترجع قدرتنا على التوازن، فالحرب في غزة وعلى الرغم من القسوة كلها التي عشناها في سوريا تتجاوز المساحة التي اعتادها الجميع في الحروب، وترسم للجميع صورا غير مسبوقة عن تناقضات كان علينا إدراكها منذ الرصاصة الأولى في السابع من تشرين، وعلينا أيضا تجاوز صور النصر التي انتهت سريعا وأعاد “العلام” كتابتها قبل أن تثقب “إسرائيل” ذاكرتنا وتجلعنا ندرك هشاشة التفكير بأن صراعاتنا ما زالت بالشاكلة نفسها.

حتى ندرك المفارقة ليس علينا تتبع الأخبار أو حتى مراقبة سيل المحللين الذين يرتبون الحدث على شاكلتهم، بل علينا قراءة مفارقة “الهموم اليوم” لبلد متعب من الإهمال، فمن دمشق إلى غزة مسافة واحدة من المعاناة التي لا علاقة لها بالحروب، فالمعارك تضع المدن أحيانا في دائرة الضوء، لكنها  تبقى في النهاية مثقلة من “التهميش”، ومن جعلها نموذجا دوليا لمن يحاول البقاء خارج قواعد خاصة تحكم مساحة “الدول التاريخية”، ففي الأرض المثقلة بالتراث هناك تعب خاص لا علاقة له بأي حدث تاريخي، إنما بثقل العلاقات المرمية فوق تلك الجغرافية المنتهكة.

ما يحدث في غزة هو صدام تفكير و”سرديات” قبل أن يصبح صراعا مسلحا، وما جرى بيننا وبين “إسرائيل” صراع على الأرض لهزيمة “سردية” على حساب رواية أخرى، وفي كل زاوية في دولنا المنهكة هناك قصص تصارع الحاضر، وتتقاتل مع أزمنة مختلفة قبل أن تصبح معاركها قضية خاصة في المحافل الدولية، فنحن مجبرون على التعثر بالماضي البعيد كله، وفي كل كبوة هناك سردية جديدة تولد لتدخل حلبة تفكيرنا ببقائنا.

هناك “سردية أخرى” عابرة لكل زمننا المُرهق، وهي تبدو في أناقة المدن المستجدة ورفاهية الوجود أمام الأبراج العالية ومراكز التسوق وترف الثقافة والإعلام، وهي اليوم لا تملك أي تماس مع التعب الذي يغلفنا لكنها تبدو “باهرة” أكثر من اللزوم، وربما تجعلنا محاصرين ولأجيال برواية واحدة عن “التنمية” أو “التطور” أو “الاستعلاء” عن كل ما يحكمنا من أفكار، وهذه “السردية” تملك قوة التعامل مع بريق “الحدث الإعلامي”، والتفكير في أن المستقبل محكوم بتصور واحد.

لا حاجة إلى تقييم أي سردية فوق أرضنا، فغلى الرغم من أننا مرهقون من كثرتها فإننا ندرك أن حجم الصور التي نملكها في الذاكرة وتعدد التناقضات التي نعيشها قبل وبعد حرب غزة تحتاج إلى التحرر من النماذج المسبقة، ومن فرض صور نمطية تجعلنا في النهاية مجرد مجتمعات يمكن شطبها من معادلة الحياة، ووضعها في أسوار من زيف الحداثة ومن وهم المعاصرة أو حتى المشاركة في مساحة الحدث الدولي كلها.

صراعتنا كلها هي مع “الوهم” الذي يُفرض علينا، ففي النهاية نحن “الآخر” الذي كان منذ فجر التاريخ يصارع لخلق سرديته الخاصة عن وجوده وأساليب سعادته وعشقه للحياة، وفي المفارقات التي يتم فرضها اليوم سواء بالإبادة أم بالإبهار فإن الصور التي نحملها في ذاكرتنا أصبحت جزءا من تكويننا، وربما من سردية جديدة تستطيع خلق مساحة خلاص لنا أو حتى لأجيال قادمة.

مقالات ذات صلة