نضال الخضري
لم يوقف الواقع الاقتصادي موسم الحج الذي يبدو أكثر من مكلف للأفراد السوريين، وبعيدا عن الأرقام فإن المشهد العام في مدينة أو قرية في سوريا كفيل برسم صورة قاتمة لواقع معيشي يصعب كسره، ومسألة الحج بعد سنوات من توقفها نتيجة ظرف سياسي تعود لترسم تناقضا حادا داخل مجتمع يعاني من تبعات الحرب.
غابت صورة “موكب الحج الشامي” منذ ما يزيد على قرن، لكن هذا الحلم يرافق عدداً من السوريين وكأنه استكمال لصورتهم الذهنية، أكثر من كونه فريضة مشروطة بالقدرة المالية، فكلمة “حجي” و “حاج” كانت تعبر عن مكانة اجتماعية مرموقة، وباتت لازمة عند التخاطب بين الغرباء لكنها لم تنزاح من الخيال الاجتماعي، بعد أن ارتبطت لفترة طويلة باستكمال “محاسن العمر” بأداء فريضة تضع الأفراد في مكانة خاصة.
انتهت صورة “الحاج” الذي يحتفل سبعة أيام بعد عودته بزينة وأضواء، ومباركات الحج غابت أيضا منذ زمن بعيد بعد أن أصبحت تلك الفريضة أسرع من المعتاد، وقلت مخاطرها مع الأيام، لكنها مستمرة ضمن مظهر آخر يبدو أكثر غرابة في ظل الفقر الذي يطفو على المشهد السوري، فإتمام الفريضة ليس مجال نقاش كونها تحمل هامشا عريضا يفصله الفقهاء، لكن حلم الذهاب إلى الأراضي المقدسة هو ما تبقى من ذاكرة السوريين الهرمة، فالحج بنظرهم يمتلك “ثقافة اجتماعية” مترابطة ترابطا وثيقا مع طريقة التفكير بـ”نهاية العمر”.
هناك مرحلة خاصة ليست مرتبطة بقوة الإيمان إنما بمحاولة “التطهر” من آثار “العمر” تجعل الحج خلاصا، فما يحدث أن كبار السن هم أكثر المقبلين على أداء الفريضة، وليس بضرورة أن يكون الاستقرار الذي فرضة تقدمهم في العمر دافعا للذهاب إلى الأراضي المقدسة، بل حاجة إلى التعبير عن إيمانهم وربما تأكيد أن ارتباطهم بالشعائر الدينية هو خارج الجغرافية التي يعيشون بها.
مسألة الحج كانت متشعبة في سوريا قديما، لأنها ارتبطت بمسار الحجاج نحو مكة والمدينة، فنشأت مواسم تجارية وظهرت ثقافة لصيقة بهذا الموسم، وما تبقى منها اجتماعيا وليس دينيا هو الصور التي تنقلها الأعمال الدرامية أحيانا، وتجعل من هذا الموسم مناسبة مختلفة عن باقي أيام السنة، وربما تدفع هذا الذاكرة إلى التفكير بالأراضي المقدسة بشكل مختلف.
الضائقة الاقتصادية السورية لا تؤثر كثيرا في الرغبة في أداء هذه الفريضة، وربما تدفع البعض للإصرار عليها لأنها تشكل تجميع “خريف العمر” بعمل لا يحمل أي صورة سوى العبادة، ويجمع أي فرد مع حشود لن يلتقي بها مرة آخر، وهذه التجربة فريدة ليست في شكلها فقط بل بقدرتها على خلق تفرد في العبادة بعيدا عن أي تأثير آخر.
موكب الحج الشامي لم يعد ينطلق من جامع السنجقدار مواجه قلعة دمشق التاريخية، لكنه مستمر في إلهام الناس أن التغلب على الضائقة الاقتصادية ممكن عبر “إرادة خاصة”، فمن يستطيع جمع نفقات الحج سيكون قادرا إذا امتلك الإيمان نفسه على كسر الشلل الاقتصادي!.