هاشتاغ-ديانا جبور
جرت العادة أن ينصبّ الحديث على محدثي النعمة، أو الأثرياء الجدد، الذين أثروا ثراء فاحشا ومباغتا، انقضّوا فيه على إرث الطبقة الميسورة تاريخيا، لكنهم التهموه ولاكوه وابتلعوه وأخفوه، دون محاولة الفعل، أو حتى نية التفكير، بتطويره والبناء عليه .. فجردوا بذلك الطبقة الثرية من آخر إيجابياتها، أي رعاية المشاريع الفنية والثقافية، إما بالتمويل المباشر، أو بالتلقي والاستهلاك، خاصةً وأن تلقف هذه المشاريع غالبا ما يكون ذا فاتورة عالية، فتراهم في صالات السينما وعروض المسارح والغناء والاستعراض.
لا يخفى أن جل موسيقا ومسرح وأوبرا وأدب الغرب تم بهذه الشروط.. بل إن ماركس، وهو أحد أكبر منظري الصراع الطبقي لم يكن ليستطيع التفرغ لإنجاز مؤلفاته لولا صديقه الميسور أنغلز.
لكن إحلالاً آخر أشد خطورةً يتم الآن في بلادنا السعيدة ..
حتى تاريخه كان التحذير ينصب على أفول الطبقة المتوسطة التي تحمي الوسطية، وتؤمن بالعمل والقيم مع السعي لتجديد البائد منها، وتبدع مشاريع فكرية وفنية تكرس الانتماء والعنفوان والفخر ببلد أنجب هذه القامات.. أي أنها السارية التي ترفرف عليها راية اسمها الهوية الوطنية الجمعية .
أصوات كثيرة ارتفعت تحذر من اندثار الطبقة المتوسطة .. لكن يبدو أن هناك ما هو أخطر .. إنه التغير الذي يصيب روافعها وتعريفاتها .
قبل أيام التقيت بصديقة دمشقية من عائلة لاتزال عريقة وكانت في سالف الأزمان ميسورة، أنفق الوالد جلّ ما يملك على تعليم أبنائه، فتغربوا ثم شرقوا وهم يحملون شهادات عليا في اختصاصاتهم .. هذه الصديقة تتقن ثلاث لغات إلى جانب العربية، تتأنق باعتدال، تترفه بحياء وتصر على تطوير ملكاتها وإمكاناتها بالقراءة والسفر واتباع الورشات.. وهذه مهام واستحقاقات كان يغطيها الراتب الذي كان يوازي إلى حد ما إنجازاتها ..
في لقاء الأمس كان شعرها مربوط، تسلل الشيب إلى مفارقه، لم تستطع أن تتصدى لتكاليف السفر إلى صيدنايا، فكيف إلى إيطاليا والفاتيكان. لم تعد تشتري الكتب أو تشترك بالإصدارات الأجنبية. لم تعد ولم تعد.. أشياء كثيرة فقدتها أو تخلت عنها باستثناء إخلاصها وإتقانها لعملها الذي تعامله كشرفها الشخصي. هذا واقع حالها وقد بات راتبها يعادل مائة دولار.
بالمقابل تتكرر معاناتي اليومية في مكتبي مع مستخدمة تتقاضى راتبها من صديق مغترب. الراتب متغير لأنه بالليرات لكن بما يعادل مائة دولار شهريا. لايمر أسبوع دون أن تحاول التهرب من التزاماتها، بل والهروب المادي من مكان عملها قبل انتهاء الدوام.. مستعدة لأن تجلس بعطالة ودون عمل لأنها تشعر بالفوز إن تهربت من أداء مهامها..
بمعادل مشابه يحقق بائع البنزين بالبيدونات على الطريق دخلاً موازياً لأستاذ في مدرسة خاصة ( أستاذ المدرسة الحكومية خارج التصنيف بعد أن وقع من قعر القفة).
وعلى المنوال نفسه يمكننا أن نقارن الديلر مع الطبيب، ومتعهد أركيلة مع كيميائي في مصنع أدوية، ومخبر مع صحفي، وحتى لاتطول القائمة أختم بمقارنة دخل السارق مع القاضي..