الخميس, ديسمبر 12, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةخطوط حمرنحن الدَّجاج لنا الغدُ...

نحن الدَّجاج لنا الغدُ…

هاشتاغ-نبيل صالح

 

1

تواكبُ مسيرةَ حياة المجتمعات البشرية مسيرةُ تدجين طيور الدَّجاج، فمع تأمين العلف والحماية والرعاية نسيت الدجاجة البرية أهمية جناحيها فاستكانت وصار وجهُها نحو الأرض لاترفعه إلى السَّماء إلا عندما تريد ابتلاع شربة الماء ويظن المتدينون أنها تشكر ربها… ومع تقدم العلم واختراع (الفقاسة) التي حلت مكان “القرقة” كأم بديلة، لم يعد هناك طيور دجاج خارج نطاق الحظائر، ولم تعد طيور الدجاج تموت بين أنياب الثعالب أو مخالب الصقور أو عدم توفر الماء والغذاء، فكلها باتت مؤمَّنة في حظائر وأمامها معالف لاتنضب ولايهددها أي خطر سوى الإنسان الذي يفترس منها يومياً بضعة مليارات ثم يتغوطها ليملأ شبكات الأرض وبحارها بفضلاته!؟

بدورها تطورت مسيرة الأنظمة الدينية فالقومية فالاشتراكية ثم الليبرالية وتدرَّجت قدراتها على تدجين المجتمعات حتى لم يعد هناك في العالم بشر أحرار يعيشون خارج زرائب الأنظمة وقوانينها… وبسبب تطور الرعاية والحماية في الأنظمة الداجنة تكاثر الدجاج والبشر أكثر من بقية طيور وحيوانات الكوكب كلها، غير أن المشكلة بقيت مع أولئك المستعصين الذين يريدون تفعيل أجنحتهم خارج نطاق إدارة المدجنة، ويوسوسون لبقية الدجاج أن بمقدورهم استخدام أجنحتهم والتحليق في فضاءات الحرية.

لهذا نلاحظ عدم الاهتمام بتربية الصقور والنسور والشواهين طالما أنها تمتلك أجنحة حالمة لا يمكن تدجينها، فتوجهت الجهود نحو تربية الطيور والدواب المطيعة وخاصة طيور الدجاج التي نسيت استخدام جناحيها وأصبح لحمها أقل قساوة وأكثر رخاوة بسبب جلوسها واسترخائها الدائم على مقاعد التعليم النظري ومعالف الإنترنت، والعملُ جارٍ لاختراع حاضنة لإنتاج أطفال بلا انتماء سوى لإدارة الحواضن حيث تمنحها أرقاماً بدلاً عن الأسماء، فأهلا بكم مع منطق الدجاج المدني الذي بات يَسِم المجتمعات على اختلاف مداجنها وطرق تنظيمها ورعايتها واستثمارها، حيث لا يهدد استقرارها سوى تنافس مستثمري المداجن ومنتجي الأعلاف والأدوية والمسوقين والطباخين وتذبذب مؤشرات البورصة بسبب ذلك.

2

بعد ابن خلدون استمر علماء الاجتماع بدراسة أحوال وطباع الدجاج، وضعوا الكثير من النظريات والأيديولوجيات حول تنظيم وترقية مجتمعات الدجاج وتطوير قطاع المداجن وحرية الدجاج داخلها وتقسيم مجتمع الدجاج طبقياً، وحددوا مسؤوليات رعاتها في الدول الملكية والجمهورية، ولم ينصح أي منهم باستخدام الأجنحة خارج مجتمع الحظيرة، فقط قالوا بحقوق الدجاج في الطعام والشراب والسكن والعمل والصحة الإنجابية والصياح والقوقأة، كما حددوا واجباته في تقديم بيضه وصيصانه للسادة المشرفين في السلم والحرب…

فبعد مسيرة تاريخية وتجارب طويلة في تدجين البشر ضمن تقاليد وقوانين سماوية ثم أرضية فإلكترونية أدرك أصحاب المداجن الليبرالية أن العناية الطبية والعلف المركز يعطي ريعية مضاعفة، وأن السماح للدجاج بحرية الحركة والرفرفة والصياح داخل الحظيرة جيد لصحتها وزيادة إنتاجها، بينما قال أصحاب المداجن الإشتراكية بالمساواة بين الأفراد في التعليم والعمل والضمان الصحي والفقر وعدم الشبع ومنع الصياح والسماح بالقوقأة الحزبية المسؤولة، وأهملوا تحديث نظام مداجنهم وسلموا شؤون تنظيمها لكلاب الحراسة البوليسية، وقللوا من حصص الدجاج العلفية في الميزانية وأضافوها لمكافآت الكلاب المشرفة على حسن تطبيق النظام الداخلي تحت شعار حشد الطاقات، فراح الدجاج الكبير يأكل الصغير ومن لايستطيع أكل لحم غيره يكتفي بأكل البحص والديدان وبقايا المزابل..

ومع مرور الزمن والتراخي تحولت بعض الكلاب إلى ثعالب تسرق الدجاج الذي بات يرفرف بجناحيه خوفاً على روحه ويغادر سياج المداجن الشرقية المتهالكة مهاجراً إلى معالف المداجن الغربية العامرة والمركزة والخالية من كلاب الحراسة بعدما طورت إداراتُها أنظمة الحماية الإلكترونية ومراقبة الدجاج بالأقمار الصناعية ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث أعجب الدجاج المهاجر بالاستقرار والأمان الغذائي والضمان الصحي واستمر بتقديم بيضه وصيصانه هناك!

3

وبما أن التنافس سمة المداجن الرأسمالية فقد طمع أصحاب المداجن الغربية باستغلال المداجن الشرق أوسطية، حيث أن دجاجهم الإفرنجي المدلل لم يعد ينتج صيصاناً تغطي احتياجات سوق العمل، فراحوا يؤلبون الدجاج الشرقي، المميز بقدرته على التكاثر ومقاومة الأمراض، ضد رعاتهم ويمولون تمردهم…

وبعدما اشتعلت بعض المداجن الشرقية بحركات التمرد والثورات المرقطة فرَّ الكثيرُ من دجاجها الشَّاب نحو المداجن الغربية حيث العلف المركَّز والأمان وحرية الصِّياح والرفرفة داخل أسوارها، فزادت إنتاجية مداجن الغرب من البيض والصيصان وحصلوا على أجيال جديدة بلا ذاكرة تؤمن بمدجنتها الجديدة وتفخر بها وتصوِّتُ للمربي الحاكم لمدجنتهم إيماناً بما تقوله الماكينة الإعلامية عن براعة وقدرة هذا المربي الكبير في استمرار تأمين وتوزيع الأعلاف المركزة ورعاية الصيصان أكثر من بقية المرشحين…

4

بعيداً عن تفسير المعاجم التي لم تلحظ الكلمات غير العربية المستخدمة في لغتنا اليومية، أظن كلمة داجن مشتقة من دَجَن والتي ترمز للطعام المصنوع من الحنطة التي دجَّنت حقولُها الإنسانَ في بلاد مابين النهرين وحولته من صياد وراع ٍمتنقلٍ إلى فلاحٍ أسير العمل في حقوله التي تحميه من الجوع الذي يخيف كل الكائنات ويتحكم بفكرها وفعلها…

وقد انتشرت زراعة القمح السوري في كل أنحاء العالم القديم، كما انتشرت عبادة القدماء لإله القمح “داجون” ، فكانوا يحتفلون به بإشعال النيران على قمم الجبال وسلق القمح ونثره فوق رؤوس دوابهم كي تحل فيها البركة، ومازال الطقس موجوداً في جبال الساحل السوري، كما يمكنك أن تسمع أحد المعمرين يقول: “والله ما دقت الدَّجَن من الصبح!..”

وبالعودة إلى فعل التدجين الذي أنتج أول تجمعات الإنسان العاقل وحيواناته الأليفة، فإن المربين السوريين، على تنوعهم وامتداد تاريخ حكمهم منذ سبعة آلاف عام، كانوا قساة على دواجنهم من طيور وحيوانات وبشر، ولم يحسنوا رعايتها واستثمارها، على الرغم من وفرة الأديان والمذاهب والأحزاب التي كانت تدعي حمايتها ورعايتها لوجه الله والوطن، بل إن إنتاجهم من دجن القمح المبارك تراجع اليوم بسبب تاريخ العسف والاستبداد وضعف الحماية والرعاية حتى أنهم لجأوا لاستيراد بعض أنواع القمح الرديء وتصدير القمح الفاخر ليحصِّلوا المزيد من العملات الصعبة ويجمِّدونها داخل خزائن مغلقة حيث ترتفع قيمتها كل يوم من دون أي تحريك أو استثمار لها في مشاريع لتأمين الأعلاف والأدوية والزرائب، بينما الدجاج البائس يبني أقنانه في عشوائيات مخالفة وينقر بعضه ويهاجر بعضه دون أي تدخل إيجابي من الإدارة التي تهتم فقط بجباية الضرائب ومراقبة ومعاقبة من يخرق قوانين المدجنة أو يفكر باستخدام جناحيه للتحليق والارتقاء إلى مستوى الطيور الحرة!؟

5

الآن أدركت لماذا كانوا يعلمونا في المدارس أغنية “هالصيصان شو حلوين”، ولماذا بنوا مدارسنا على غرار هندسة المداجن المغلقة، ولماذا قرروا لنا مناهج تربية دجاجية تعتمد أسلوب الحفظ لا التفكير، وتعلِّم الطاعة والرضى والتسليم لأمر الخالق من دون التذكير بأن الخالق قد وهب الطيور أجنحة كي تحلق بها في سماء العقل واكتشاف قيمة الحرية وغنى العالم من حولها، وليس من أجل تأمين مطاعم كنتاكي ووجبات الدجاج الجاهزة على موائد الرعاة والمحاسبين والمسوقين والكلاب والمحظيات…

وما زال الدجاج يتكاثر منتجاً البيض والصيصان داخل مداجن الدول، وما زال علماءُ الاجتماع وقادةُ الأحزاب والحكومات يعملون على تطوير أنظمة التفريخ والتربية والتدجين، حيث ينتهي الجميع في رواق المسلخ الوطني وهم يرتلون: نحن الدَّجااااج لنا الغدُ… ومجدُهُ المخلد…!

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام
مقالات ذات صلة