هاشتاغ _ سامر ضاحي
فرضت تفاهمات الأزمة السورية خارج الإطار الأممي واقعاً جديداً على الأرض، عبر جغرافيات متمايزة شُكلت تبعاً لمصالح ورغبة الفواعل الإقليمية والدولية ذات الصلة، ولكن رغم مساهمتها باستقرار مرحلي هش حدّ من نزيف الدم السوري على جبهات القتال بشكل كبير، إلا أن الجغرافيات المتشكلة باتت معضلة تعوق أي جهد للحل وتكاد تصبح “لعنة” تواجهه، فبات التعافي السوري اليوم يحتاج إلى “نعمة” سياسية تمثل حالة من الانفتاح بين هذه الجغرافيات، من مخارجها الممكنة اللجنة الدستورية وقانون للإدارة المحلية.
“لعنة” الجغرافية المتشظية
منذ بدايات الحراك في2011، اتسع دور الأطراف الفاعلة في الحرب السورية خارج الإطار الوطني، متحولاً من التدخل غير المباشر أدواته “النصح السياسي” والضغط الإعلامي، إلى تدخل مباشر تارةً بواسطة قوى غير دولاتية كحزب الله والإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة الإرهابي، وتارة أخرى بواسطة جيوش هذه الأطراف الفاعلة.
وبدا واضحاً أن مساحة الجغرافيا التي تسيطر عليها الحكومة السورية، تناسبت طرداً مع التدخل العسكري المباشر للقوى الدولية ضدها أو لصالحها، فمع تراجع هذه المساحات إلى أقل من 35 بالمائة من مساحة البلاد، انتقل الوجود الأجنبي الداعم للأطراف إلى وجود علني مباشر ساهم بتقسيم هش للجغرافيا السورية، فرسم دعم روسيا وإيران للحكومة حدود سيطرتها في وسط وغرب البلاد، أو ما كان يسمى “سوريا المفيدة”، بينما رسم الدعم التركي للقوى التي تحارب السلطة، شكلها العسكري من جهة وجغرافية امتدادها في شمال غرب البلاد، أما التحالف الدولي بقيادة واشنطن فقد امتزجت أهداف محاربته لداعش مع خريطة موارد الطاقة السورية، فرسم لحلفائه في “قوات سوريا الديمقراطية- قسد” شكل تنظيمهم العسكري وتجاوزه في دعم نموذج للحكم الذاتي، وأمن لهم جغرافية “شرق الفرات”، على حين رسم الدعم الإسرائيلي والعربي لفصائل الجنوب جغرافية قلقة في جنوب وجنوب غرب البلاد.
سبق رسم الجغرافيات السابقة مخاضات كثيرة سياسية وعسكرية، تتوجت بتفاهمين بارزين لم يكن للفواعل الوطنية أي دور في صياغتهما؛ الأول سياسي تمثل بالقرار الأممي 2254 الذي وضع محددات الحل السوري، والثاني عسكري تمثل باتفاقات “أستانا” التي رسخت جغرافيات السيطرة وحمتها بخطوط “خفض التصعيد”، باستثناء منطقة شرق الفرات التي ترسخت بتفاهمات روسية_أميركية مباشرة.
وفي حين أن القرار 2254 بني على مبدأ المقاربة الوطنية لكنه لم يفض إلى وقف للنيران، فإن الثاني رسخ مبدأ المقاربات المحلية في النزاعات المسلحة وقدرتها على تجميد الحروب من جهة، كما رسخ من جهة أخرى مبدأ التفاهمات خارج الإطار الأممي في فرض واقع على الأرض، وقدرته على التعاطي مع تعقيدات الصراع بصورة أكثر مرونة.
“اللعنة” وطرد 2254
رغم أن مقاربة “خفض التصعيد” ساهمت ولو لحين بكسر عطالة الحل في سورية، إلا أن هذا الكسر كان لصالح ترسيخ جغرافيات السيطرة، وتعزيز الاستقطاب بين الفواعل الوطنية وداعميها بدل أن يكون عاملاً دافعاً لتوافق وطني سعى إليه 2254.
وبدا أن أي عمل بهذا الاتجاه يتطلب مقاربة لكسر “خفض التصعيد” وتغيير أطرافه، وهو ما تحقق فعلياً في اتفاق الجنوب 2018، عندما أنهى الاتفاق الروسي الأميركي الإسرائيلي جغرافية الجنوب الطارئة، وأعادها لسلطة الحكومة المركزية ولو بشكل غير ناجز كما تريده دمشق.
وفي الشمال عندما كسرت تركيا تفاهم أستانا الثلاثي لتحقق من خلال تفاهم ثنائي مع روسيا، توسيع نفوذها إلى جغرافيات أخرى كــ”غصن الزيتون”.
تعكس التحولات السابقة الذكر مساعي القوى الدولية والإقليمية لحجز حصصها، عبر قسر الجغرافيا السورية وإعادة رسمها وفق مصالح هذه القوى، وتجاهل الحقائق التاريخية القائمة على تكامل هذه الجغرافيا، ما خلق حالة ميزت جغرافية سيطرة كل طرف عن جغرافيات سيطرة الأطراف الأخرى، وهذا الأمر يعكسه مثلاً نموذج “الإدارة الذاتية” كجغرافيا خاضعة للسيطرة الأميركية، التي تختلف عن المساعي التركية التي تسعى اليوم لتغيير نموذج سيطرتها في شمال غرب البلاد إلى نموذج احتلالي مباشر بتوحيد الجغرافيات الخاضعة لاحتلالها وتعيين “والي” عليها بعنوان تهيئة ظروف عودة اللاجئين.
حتى تحرُّك العشائر في دير الزور يعكس ملامح مصلحة تركية مضادة لنموذج “الإدارة الذاتية”، تريد من خلاله أنقرة مواجهة الأكراد، ومصلحة إيرانية لزعزعة استقرار الوجود الأميركي شرق الفرات، وحتى هناك مصلحة للولايات المتحدة باسترضاء لقوى العشائر وما يمكن أن تحصلّه لاحقاً من جغرافيا جديدة، مناوئة لدمشق تبعد الحكومة السورية عن الحدود مع العراق نهائياً.
منطقياً لا يمكن لأي من الجغرافيات الناشئة الاستمرار على المدى الطويل، لعوامل ذاتية تتعلق بضرورة وجود الراعي الإقليمي أو الدولي دائماً وما نال هؤلاء الرعاة من إرهاق وكلف متزايدة، وكفاية الموارد وديمومتها، وقد لا يكون بالإمكان توفير هذين الشرطين دوماً، وإن كانا متاحان اليوم بحكم الضرورة، وفي ضوء هذه القراءة يمكن الحكم بصعوبة تحقق فرضية قيام جغرافيا جديدة في السويداء مثلاً.
من جهة أخرى تعزز هذه الجغرافيات الـ”مرحلية” حتى الآن، تعقيد التوافق الدولي حول 2254، لكنها أيضاً تشكل مبرراً موضوعياً لدمشق لعدم الالتزام به أصلاً أو لإعلان التنصل من استحقاقاته السياسية، او حتى إعلان وفاته، ما يعني أن هذه الجغرافيات تشكل بذاتها “لعنة” تبعد “نعمة” خلاص السوريين وتمنع تحقق الاستقرار المستدام.
من استعصاء “اللعنة” إلى “نعمة” الحل
إن حل “لعنة” الجغرافيا وتشظيها لكي لا تكون مفتاح لعدم الاستقرار، هو انفتاح الجغرافيات على بعضها عبر علاقة متوازنة بين المركز والمحليات، قد يحققها تطوير قانون الإدارة المحلية الصادر بالمرسوم 107 لعام 2011، أو تفعيل لعمل اللجنة الدستورية، وهما من أبرز المداخل المتاحة لمرحلة التعافي، إلا أنهما يتطلبان موضوعياً شروطاً على عدة مستويات:
على المستوى المحلي وهي الأقسى، إذ يتطلب الأمر قبول الأطراف والاعتراف المرحلي بالشرعيات المتعددة، في سبيل الوصول إلى شرعية واحدة.
موضوعياً كلمة الفصل تبقى عند السلطة المركزية في دمشق، وأي مطلب للحل وفق 2254 لا بد أن يقترن بموافقتها على السير الجاد في مبادرة وطنية على هذا المستوى.
على المستوى الإقليمي هناك حاجة للاعب محوري لا يشكل استقطاباً في الإقليم وهنا يمكن التعويل على الدور العربي عبر الاستفادة من المبادرة المطروحة، سيما أن العرب لا يحتلون جغرافية سورية، ووحدهم من يغيب عن الوجود العسكري على الأرض بعكس رعاة الجغرافيات كتركيا أو داعميها كإيران.
وعلى المستوى الدولي هناك حاجة لراعي دولي يمكنه التواصل مع كل الأطراف، ولذلك فإن روسيا كانت مؤهلة نظرياً لدعم هكذا انفتاح عبر بوابة المصالحة بين أنقرة ودمشق، إلا أن انشغالها في إدارة علاقاتها المتوترة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وعدم وضوح مسار المصالحة ومآلاته يصعبان عليها المهمة، وذات الأمر ينطبق على الولايات المتحدة غير المعنية بأولوية الملف السوري، في حين أن الصين مرشحة لهكذا دور إن هي أرادت، حيث أن لها علاقات مع جميع القوى الفاعلة في الأزمة السورية، ودبلوماسيتها بعيدة عن الضوضاء تتيح لها العمل بأريحية، وكما نجحت في حلحلة عقد السياسة بين إيران والسعودية مؤخراً، يمكن لها توظيف ذلك لفك لعنة الجغرافيا السورية وهي الساعية للدخول بقوة على خط الشرق الأوسط.
لكن بموضوعية شديدة فإن توافر الشروط على المستويات الثلاث، مباركة الحكومة ومساع عربية ورعاية صينية، لا تلغي الحاجة إلى أدوات متطورة، فالأدوات الرسمية الحالية غير مساعدة حتى للسلطة لو أرادت المضي في هكذا خيار. بالتالي يتطلب الأمر من اللاعب العربي والراعي الصيني دعم جهود مركزية في تطوير الأدوات والآليات المرحلية، من أجل تحقيق مثل هذا الخيارات أولاً، وتوفير أجواء التقارب وضمان عدم عرقلتها ثانيا