الأحد, ديسمبر 22, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةأخبارهنا دمشق... عزّ الشرق

هنا دمشق… عزّ الشرق

هاشتاغ _ صدام حسين
لا أذكر بالتحديد تاريخ ذلك الصباح، ولكنه كان شتوياً بامتياز، ممطراً وبارداً، أمي في المطبخ تحضّر وجبة الإفطار، وأبي يحاول تشغيل المدفأة ليملأ البيت دفئاً، رائحة الزيت والزعتر والمكدوس ومحتويات «بيت المونة» تفوح في المنزل، وصوت الراديو ينساب بنعومة إلى غرفتي.
عندها أستيقظ أنا وأخوتي على تلك الجملة التي حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد: «إذاعة الجمهورية العربية السورية من دمشق تقدم: مرحباً يا صباح».
وتنشد فيروز: «يا صبح روّج طولت ليلك خليت قلبي نار، بلكي بتجي أختك تغنيلك بلكي بتجي جلنار».
كنت أظن أن «جلنار» اسم فتاة، واكتشفت لاحقاً أن «جلّنار» التي تغني لها فيروز هي «أخت الصباح» الذي تستعجل فيروز قدومه، و«الجلنار» هو زهر الرمان، الأقرب إلى لون الشمس لحظة الشروق.
كنا نستيقظ على هذا الكم الهائل من الجمال والدفء والحنان والشاعرية في كل صباح، قبل أن نذهب بلباسنا الموحّد ذي اللون العسكري إلى المدرسة ونردد الشعارات.

حكم العدالة

في الطريق من وإلى المدرسة كنت أسمع شارة الأخبار من إذاعة دمشق تصدح من المحلات والباصات، عندها كانت الإذاعات الرسمية تحتكر الأثير.
واكتشفت لاحقاً أن موسيقى أخبار الإذاعة هي ذاتها موسيقى «نشيد القسم» التي وضعها الموسيقار محمد عبد الوهاب.
أما برنامج «حكم العدالة» حكاية لوحده، كان «المساعد جميل» يفرض حظراً للتجوال في المدينة كل ثلاثاء بأسلوب درامي شيق.
شكل هذا المسلسل الإذاعي الطويل الوعي الجمعي البوليسي للسوريين من خلال رواية قصص الجرائم والسرقات التي يكتشفها «الرائد هشام» برفقة مساعده، وتجاوز عدد حلقات هذا المسلسل خمسة آلاف حلقة ولا يزال مستمراً حتى اليوم ما دامت الجرائم مستمرة.

الذاكرة السمعية

لم أكن أتخيل يوماً أن تبقى بعض شارات البرامج عالقة في ذهني ثلاثين عاماً، آلاف الصور ما زالت في خيالي، وربما صنعت إذاعة دمشق علاقتي بالراديو، كما شكلت الذاكرة السمعية للسوريين.
ما زلت أذكر مثلاً شارة «ظواهر مدهشة»، و«ما يطلبه المستمعون»، و«جزيرة المرح»، و«مع المغتربين»، و«الشعر والليل موعدنا»، و«يوميات عائلية»، و«صوت القوات المسلحة من دمشق»، و«ملاعبنا الخضراء»، ومن ينسى افتتاحية إذاعة دمشق لـ «أمير البزق» محمد عبد الكريم؟.

العيد الماسي

احتفلت إذاعة دمشق بعيدها الماسي، في ظل أسوأ أزمة تمر بها سورية في العصر الحديث.
وخلال 75 عاماً كانت إذاعة دمشق شاهدة على تاريخ سورية منذ تأسيس الجمهورية.
في الثالث من شباط عام 1947، جلس المذيع الأول في سورية الأمير يحيى الشهابي خلف الميكروفون وقال جملته الشهيرة «هنا دمشق، إذاعة الجمهورية العربية السورية»، معلناً بداية إرسال إذاعة دمشق رسمياً، ليكون أوّل صوت يسمعه السوريون عبر الراديو، وباتت هذه العبارة لازمة وعلامة مميزة رافقت الإذاعة السورية.
بدأت إذاعة دمشق من مبنى مستأجر في شارع بغداد، في الطابق الأرضي، بينما كان يعيش صاحب البناء في الطابق العلوي.
وعندما فشل صاحب البناء في إخلائها، لجأ إلى إزعاج العاملين في الإذاعة، فأوعز إلى أهله بالضرب والدق في جرن الكبة والطناجر للتشويش على البث أو إحداث أصوات للإزعاج!.

البيان رقم واحد

أصبحت الإذاعة أحد ملامح الاستقلال الوطني في سورية التي كانت تتحرّر من بقايا الاستعمار الفرنسي.
أطلقت خيال السوريين، وكانت المصدر الأول للخبر، ومساهماً أساسياً في الحياة السياسية، في عصر الانقلابات السياسية، صارت إذاعة دمشق منبراً لقراءة ما يُعرف بـ «البيان رقم واحد».
وبعد احتلال فلسطين أطلقت الإذاعة برنامج «صوت فلسطين» الذي لا يزال مستمراً.
من خلال إذاعة دمشق، أطلق المذيع السوري عبد الهادي البكار عبارته الشهيرة «هنا القاهرة من دمشق»، بعد توقف إرسال الإذاعة المصرية جرّاء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
أثارت الحكومات السورية المتعاقبة المشاعر الشعبية وحشدت الجماهير من على منبر الإذاعة لتعبئة الرأي العام، خصوصاً أثناء الأزمات والحروب، واستخدمت الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية.

إذاعة دمشق وفيروز

في عام 1953، كان الأمير يحيى الشهابي يتناول طعامه في بيروت، وكان مذياع المطعم يبث برامج الإذاعة اللبنانية، وقدم المذيع مطربة اسمها فيروز، دُهـش الأمير الشهابي بصوتها، ودعاها إلى دمشق مع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني.
هنا شرّعت الإذاعة السورية أبوابها للفن الفيروزي، وأنتجت لفيروز «عتاب»، أغنية الشهرة الأولى.
وبعدها نشأت العلاقة التاريخية بين فيروز والرحابنة مع سورية وأهلها وخصوصاً دمشق، ولا تزال الإذاعة السورية محتفظة بكنز فيروزي عظيم يشغل حيّزاً كبيراً من مساحة إرسالها ويطغى على برامجها حتى يومنا هذا.
أطلقت «إذاعة دمشق» عبر أثيرها مواهب فنية كبيرة من السوريين والعرب، لا يمكن ذكر أسمائهم في مقال واحد.

تصدير الإعلاميين والإعلاميات

خلقت الإذاعة جواً من الألفة والصداقة مع المستمعين، عبر أهم الإعلاميين والإعلاميات الذين أصبحت إذاعة دمشق بفضلهم رقماً صعباً في المنطقة، وأصبحوا جزءاً من تاريخ سورية الحديث.
وكونها من أولى الإذاعات في العالم العربي، صدّرت إذاعة دمشق مئات المذيعين والمذيعات إلى العالم العربي، ولاحقاً إلى التلفزيون الذي استقطب عشرات النجوم الإذاعيين، ولا تزال الإذاعة السورية مستمرة في تخريج أجيال جديدة من العاملين في المجال الإذاعي.

إذاعة دمشق اليوم

تراجع دور الراديو عموماً بعد انتشار التلفزيون، واليوم تصارع إذاعة دمشق للبقاء، في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا تزال الإذاعة السورية تبثّ برامجها كالمعتاد من مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في ساحة الأمويين في دمشق، وتحاول الإفادة من التقنيات الحديثة في الإرسال، وتستخدم منصات السوشال ميديا والإنترنت لنشر برامجها.
أسهمت إذاعة دمشق في بناء أسس الدراما السورية، وخرّجت استديوهاتها خلال خمسة وسبعين عاماً المئات من العاملين في الدراما من ممثلين وكتاب ومخرجين وفنيين، ولا تزال مهتمة بالدراما الإذاعية، التي حققت رواجاً كبيراً ومنها «حكم العدالة» الذي حقق ملايين المشاهدات بمجرد عرضه على يوتيوب مؤخراً.

عز الشرق

علاقة السوريين بالإذاعة مميزة ولافتة، ولا تزال هذه العلاقة مستمرة طالما أن الراديو يزدهر في زمن الحرب، وانقطاع الكهرباء وأحياناً الانترنت يبدو أنه سيبقى ملازماً للسوريين.
استولت الإذاعات اللبنانية على الأثير السوري في التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة فانكفأ الجيل الجديد نوعاً ما عن الإذاعات الرسمية، وانتهت هذه الحقبة بالترخيص للعشرات من الإذاعات التجارية السورية الخاصة التي فشل معظمها في استقطاب السوريين، وحافظت إذاعة دمشق على هويتها وجمهورها الوفي لبرامجها، وكانت مثل شعارها: «عز الشرق».
مقالات ذات صلة