الخميس, ديسمبر 12, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

وجع “المكان”

نضال الخضري

قبل عام أعاد الذكاء الصنعي رسم تصوراتنا للعالم، وجعل من الأمكنة “ملاذا” آمنا في زمن يتبدل، ويعيد اليوم رسم الأمكنة من جديد، خصوصا في المدن المتعبة التي لا يعنيها ذلك “الذكاء” إلا بقدر محدود؛ لأن الحنين للأمكنة يشكل ثقافة وتراكما لتاريخ مركب، فهو من طبيعة المجتمعات التي صارعت منذ فجر التاريخ للاحتفاظ بجغرافيتها، وتحولت الجغرافيا في الزمن المعاصر إلى صور تشبه الرسوم التي نكتشفها في مغارات الإنسان القديم.

هناك حيوية خاصة في المدن المتعبة لـ”رسومات المكان”، لأنها في النهاية كل ما يتبقى لنا من صراع البقاء، فمن منازل الطفولة إلى الأبنية التي رسمت نشاطنا اليومي تبقى “الأمكنة” نقطة الهدوء الوحيدة وسط الصخب القاتل للذكريات الموجعة كلها، وتستمر صور المدينة وتحولاتها المفجعة حالة من النزاع بين الرغبة في الاحتفاظ بالأمكنة والزمن الذي يقهر الجميع بحدثه السياسي أو برعب فقدان آخر ما نملكه من بقائنا في هذه الأرض.

ينهي الذكاء الصنعي اليوم عدداً من الوظائف ويقلل فرص الذكريات المحفورة في “المكان” الذي يجمعنا بالآخرين، فهو ظاهرة ذاتية بامتياز تعزز خيالنا بحالات مختلفة لا ترتبط بذاكرة قديمة، ولا بالحنين لـ”الأمكنة” التي استهلكت العمر، وهو في الوقت نفسه يرسم اغترابا خاصا عن المدن التي أنهكها الزمن، وعجزت عن جعل صور الماضي شكلا يمنح الحيوية للأجيال القادمة، فالحنين للماضي يغدو ضرورة بعد أن تكسر الحاضر على إيقاع قفزات نعجز عن مواكبتها، وتبقى تصوراتنا عن “الأمكنة” حالة استثنائية لأننا دَفَنّا مشاعرنا فيها، وحملناها التفاصيل كلها التي داعبت خيالنا، لتصبح جزءا من صورتنا التي نحملها وسط التحولات كلها.

تُرهقنا تلك الأمكنة التي تحمل معها شكل البقاء، وربما “نفحات” من الرغبة في رسم الأحلام رسما مختلفا، فالذكاء الصنعي حتى اللحظة يلغي الوظائف لكنه لم يصل إلى درجة التأثير في “حلمنا”، فهو طموح جامح يكسر إيقاع العالم، ويتجاوز المدن المرهقة لأنها ما زالت تتمايل على إيقاعات لا تحمل أي جديد سوى القدرة على الارتباط بمظاهر العمران المتبقية، فكل ما تملكه من البقاء هو ما يعلق في الذاكرة من صور لأمكنة استهلكت أزمنتنا، ثم رسمتنا حنينا لتداعيات مختلفة ولأحلام خصبة.

ما يجمع المدن المتعبة بالذكاء الصناعي هي التصورات فقط، فهو قادر على بناء حالة افتراضية للزمن داخل المكان وموقعه في ذاكرتنا، فنسترجع تفاصيل لم نفكر يوما أنها تلخص مساراتنا كلها، ولم نتصور أنها ستصبح “وجعا” لا يجعل الحنين للماضي شكلا عاديا، إنما مرور سريع نحو وجوه رافقتنا في ذلك “المكان” الذي بقي يحفر في ذاكرتنا طويلا.

دمشق مكان موحش من دون ذاكرتنا الخصبة، وهي مدينة منهكة من تعاقب الأزمنة، لكن في الوقت نفسه سلسلة من التفاصيل الحية التي تربطنا بكل شارع فيها، أو بناء انغرس بالصدفة ليصبح جزءا منا، فالوحشة التي خلفتها الحرب نبددها بتصوراتنا الجديدة وربما بما يمنحه الذكاء الصنعي من تأمل بزمن جديد يقفز بنا نحو عالم يستطيع إعادة رسم “الأمكنة” رسما مختلفا.

مقالات ذات صلة