هاشتاغ-يسرى ديب
مع التسارع في انتشار الفساد، لم يعد بعض الموظفين يقبلون “الإكرامية” لتسوية ما هو غير قانوني فحسب، بل إنهم صاروا يتفننون في ابتكار أساليب لعرقلة كل معاملة حتى لو كانت كاملة، بهدف إجبار صاحبها على الدفع.
الفساد كارثة سوريا القديمة الجديدة والمستمرة، والتي وصلت أرقامه إلى عتبات خيالية، إذ قدر خبير أن دورة الفساد تستنزف نحو 4 آلاف مليار ليرة سورية!
نشاط سلحفاتي
إحدى المتعاملات مع مصرف يفترض أن يتطلب عمله الكثير من المرونة والرشاقة، تقول إنها لا تجد وصفاً لحالة ذلك الموظف الذي كان يتعمد العمل ببطءٍ شديد، ومن ذلك أن يغادر دون سبب، ثم يعود ليتابع بشكل “سلحفاتي”. وحين بدا أنها لم تفهم لماذا كل ذلك البطء، قال إنه سيسلمها المبلغ من فئة الألف والألفي ليرة.
وهذا يعني أن عليها أن تحمل وزناً غير قليل من الورق، فطلبت منه أن تستلم المبلغ بفئات الخمسة آلاف ليرة، قال دون أن ينظر إليها: “ما في عنا”،
إلا أن تلك الفئة ظهرت حين أذعنت وعرضت عليه ورقتين من تلك الفئة مقابل تلك “الخدمة”.
ضاعت أم.. أخفيت؟
قصص التقاعس في العمل وإعاقته للحصول على الإكرامية لا تحصى، منها ما حصل مع كاتبة التقرير شخصياً عند إعداد معاملة ماراثونية من نموذج “ملف الاستقالة“؛ بطء شديد وليس أسهل من أن يقال لك: ارجع بعد أسبوع أو عشرة أيام، لكن المشكلة الأهم كانت في الفقدان المتكرر لبعض الأوراق الرسمية، بين تأكيد جهة أنها وضعت تلك الأوراق في الملف، ونفي أخرى أنها موجودة أصلاً ، ولا يبقى أمام “المعتر” الذي يعد هذا الملف إلا أن ينصاع للمطلوب وينفذ، دون علم بحقيقة ما يجري وأين اختفت الأوراق ولماذا؟
في طريق العودة لإحضار واحدة من الأوراق المفقودة، كنت أتذكر ما سبق أن قاله أحد الاقتصاديين في البلد وهو يشير إلى أن بعض التقارير الدولية كانت تصف الفساد في بعض البلدان بأنه يشبه الزيت اللازم لتحريك عجلة الروتين الذي يؤدي إلى التكلس، لكن ربما لم يخطر في بالهم أن الأمر تجاوز في سوريا ذلك، إذ صار الروتين أكثر رحمةً من تعمّد وقف سير أي مشروع أو معاملة بهدف الحصول على “إكرامية”.
ومع التراجع الحاد في القدرة الشرائية صار الاستثناء هو الموظف غير المرتشي، والأخطر عندما تكون القطاعات حساسة ولها تأثير كبير على حياة الناس، والجميع يعلم أن هذا الواقع أصبح يشمل كل القطاعات دون استثناء.
والحقيقية أن هنالك وجهة نظر لكثير من الموظفين لا يمكن تجاهلها، حيث بدت إحدى الموظفات في سجل العاملين بالدولة وقد استنفذت كامل طاقتها، ولم يعد بإمكانها التجاوب مع الموظفين الذين يصطفون أمامها بالعشرات لإنجاز معاملاتهم.
أقرأ المزيد: قاضي اقتصادي: مؤسسات القطاع العام تحتال على بعضها البعض.. ومديران قيد التحقيق
ويتكرر هذا المشهد في الكثير من القطاعات التي يتطلب العمل فيها جهداً وتواصلاً مباشراً مع الناس، وكل هذا مقابل مائة ألف ليرة شهرياً، قد لا تكفي لتغطية أجار الطريق، ليجد المراجعون والموظفون أنفسهم في حالة مشاحنات دائمة وهم ضحايا بالمقدار ذاته!
لن يغيرها
واقع يفرض علينا أن نطرح السؤال بعد سنوات من انتشار تلك الظاهرة: هل يمكن لمن اعتاد على تقاضي الرشى أو “الإكرامية” كما أسماها الأستاذ في كلية الاقتصاد د. شفيق عربش أن يتوقف عن إعاقة العمل مقابل الحصول على الرشوة فيما لو تحسن الدخل؟
يقول عربش إن من اعتاد على الإكرامية لن يغير عادته عندما يتحسن الدخل، رغم اعتقاده جازماً أن الدخل لن يتحسن. وقد سبق له التأكيد في تصريح سابق لهاشتاغ أن هنالك شرعنة غير معلنة للفساد.
وبيّن عربش أن هنالك وجهة نظر على ما يبدو في رئاسة مجلس الوزراء تشير إلى أنه لا يوجد موظف “ما عم يدبر حاله”، وهنالك من يقول “منعطيه أجور النقل ويدبر حاله على حساب المواطنين”.
مفتاح الفساد
الخبير الإداري عبد الرحمن تيشوري يقول لهاشتاغ إن الرواتب المنخفضة هي مفتاح الفساد وتشجع عليه، ولا يمكن تحقيق أي إصلاح إلا إذا كانت الرواتب كافية وتوفر مستلزمات العيش الكريم، وأن تكون مرتبطة بالقدرة الشرائية وسلة الأسعار ومستوى المعيشة.
أقرأ المزيد: مع تفاقم الأزمة المعيشية.. تزايد أعداد المستقيلين من الوظائف الحكومية في سوريا
ويضيف أن حاجة الموظف لا تقل عن مليوني ليرة لتأمين الأساسيات، وأن زيادة 200 ألف أو 300 ألف ليرة لن تحقق ربع مستوى المعيشة المطلوب.
ولفت إلى أن الفجوة الكبيرة بين الرواتب والأجور، وبين الأسعار يجب ردمها وهذا يتم عن طريق رفع الأجور كحد أدنى بنحو 300%، حتى يمكن علاج هذه الظاهرة، ولكي لا تكون الرواتب الضعيفة عبئاً على الدولة والناس.
وأشار تيشوري إلى أن الكثير من العاملين في المؤسسات الحكومية، وخاصة من يتعاملون بشكل مباشر مع المواطنين كما في دوائر الهاتف أو المياه أو الكهرباء أو المالية أو البلديات أو..أو..الخ، ونتيجة العوز المادي يلجؤون إلى مصدر ثان للمال، ويلجؤون لتعطيل العمل للحصول على المال من المراجعين.
قاطرة الإصلاح
يرى تيشوري أن الأجور المرتفعة الكافية قاطرة الإصلاح ومقدمة له، ولا يمكن الحديث عن إصلاح أو خدمات الكترونية دون علاج الرواتب المنخفضة.
وأكد أن الحديث عن عدم إمكانية زيادة الأجور كلام غير صحيح، وأشار إلى دراسات سبق أن قدّمها للحكومة تؤكد أنه يمكن رفع الرواتب 200%، دون أن تكلف خزينة الدولة قرشاً واحداً، وذلك من خلال موضوع الدعم وأرقام الموازنة وضبط الهدر والفساد الكبير الموجود في الحبوب والمخابز والمحروقات والمال العام.
دورة الفساد
ويلفت الخبير الإداري إلى أن دورة الفساد التي توصل إليها عبر دراسة أعدها، تصل إلى 4 آلاف مليار ليرة، وقيمة التهرب من الضرائب 4 آلاف مليار ليرة أيضاً، وأكد أنه من الممكن زيادة الأجور من هذين العنوانين بنسبة لا تقل عن 200% دون رفع سعر أي سلعة.
ووصف تيشوري السياسات الحكومية بالفاشلة، وطالب بضرورة ترحيلها اليوم قبل الغد، ومحاسبتها لأنها دمرت الإنتاج وعملت لصالح المستوردين والتجار ومن يحميهم، وضربت الإنتاج بشقية الزراعي والصناعي والحيواني.
والمعروف أن عنوان التعافي الاقتصادي يبدأ من الإنتاج الزراعي، لذا يجب إعادة القدرة الشرائية للأجور، وأن لا يقل أي راتب عن مليون ليرة والحد الأدنى للرواتب عن 500 ألف ليرة، وأن لا يؤخذ منها قرشاً واحداً كضرائب دخل، ويشير إلى أنه وبعد رفع الحد الأدنى للأجور إلى 183 ألف ليرة، ما زال يخضع لضريبة دخل وهو لا يكفي مصروف جيب، ويجب أن لا يخضع لضرائب.
نتيجة متوقعة
من جهته، يقول الخبير الإداري صلاح الدين سقر إنه من الطبيعي أن يتراجع مستوى الأداء في ظل ظروف الحرب، وأن يظهر المزيد من أشكال الفساد، سواء في القطاع العام أو الخاص بأنواعه كنتيجة متوقعة للأثار السلبية لتداعيات الحرب مع ضرورة التفريق بين الفساد الكبير والفساد الصغير.
سلة واحدة
وأشار سقر إلى أنه لا يمكن وضع جميع الموظفين الحكوميين في نفس السلة لجهة سوء الأداء والفساد، وأن أغلب مظاهر الأداء السيء قابلة للمعالجة مهما استفحلت باعتماد معايير الكفاءة والنزاهة والشفافية، والتي لا يمكن تطبيقها إلا باعتماد أدوات وسياسات الإدارة العلمية المختلفة ومنها:
تحسين الدخل والمستوى المعاشي العام للموظفين، وضوح وتحسين وتبسيط الاجراءات، وكذلك محاسبة المقصرين إذا ثبتت إدانتهم وإذا وجدنا لذلك سبيلا.
ولفت سقر إلى أن موظفي القطاع الخاص ليسوا أفضل حالاً من موظفي القطاع العام.