الجمعة, ديسمبر 13, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

رائحة الموت..

نضال الخضري

يصعب استعارة كلمات لوضع فقرة واحدة عن خمسة أشهر من الجنون، ومن حالة الشك وعدم البقين، فرائحة الموت القادمة من شارع الرشيد لا تطال أهل غزة، فهي الصورة النهائية لمعرفة ناقصة، وربما لعدم القدرة على قراءة حالة عداء مزمنة حاولنا الخروج منها، ولكن “الآخر” الذي يفرض كل مقايسيه علينا يجرنا نحو حالة من الكره، فمجازر غزة ليست صنعية “إسرائيل” فقط إنما نتيجة “استباحة” معلنة من عالم بات على يقين بأنه سينجو من أي حساب.

بالتأكيد فإن مجزرة شارع الرشيد ليست الأولى، ولسنا بحاجة لأي دليل على أن قضية “الإبادة” قانون يلتزم به الجميع وتحمله “إسرائيل” وفق شرعية منحها العالم لها، والأهم أننا تنحينا أمامها وتركنا المساحات حولها لوهم كبير لا يرتبط بـ”السلام” ولا بأي مفاوضات قديمة أو جديدة، فهو حالة استرخاء في مواجهة استنفار الجميع لممارسة استباحة علنية لأوراحنا، فالمجازر في غزة تطالنا ونحن على “قيد الحياة”، وتعيد تشكيلنا بطريقة بلهاء، فيبحث البعض عن “الترفيه” أو متابعة الإنتاج التلفزيوني في رمضان، ويتوهم آخرون بأنهم أبعد ما يكون عن المجزرة، لكنهم يخضعون لمجزرة آخرى تطال “بصيرتهم” بالدرجة الأولى.

من ترك الغزيين يواجهون مصيرا غير مسبوق في تاريخنا القريب هم ضحايا أيضا لأنهم جاهلون تماما لطبيعة الموت الذي يطال “رؤيتهم”، فهم غارقون أحيانا بوهم التظاهرات الكبرى والمعارض والاحتفالات، أو حتى ببريق ملاحقة ثقافة عجوز يمكن أن تسقط في أي لحظة وتتركهم في متاهات من عدم المعرفة، أو من ألم يقودهم نحو الموت الذي ينتشر من غزة باتجاه الجميع.

كل شيء بات ممكناً في عالم يخلق بؤرا للعزل، فالبعض معزولون وسط المجزرة، وآخرون في مساحة “الاستعراض” بمهرجانات لا تحمل سوى صور نمطية مأخوذة من هوليود، وهناك من تم عزله في دائرة الإفقار أو الحروب الداخلية، وفي النهاية فإن لكل طرف “مجزرته” الخاصة، ومساحة الموت المحشور بها بانتظار اللحظة التي يصدر بها أحكام بأنه لم يعد قادرا على الوجود في العالم المكسر، فأهل غزة نموذج أو حتى حالة “نمذجة” لمصير واحد يطال الجميع.

من حقنا أن نغضب أو نحقد أو نختزن كل الكراهية التي فُرضت علينا، فنحن نشهد زمن المفارقات الكبرى، وندفع ثمن عزلنا في دوائر متباعدة بانتظار وصول المجازر إلينا، ونحن أبناء التصورات المريضة بأن العالم لصيق بنموذج واحد يختصره “مجلس الأمن” ببرودة قراراته في مواجهة “المجزرة”، فـ”إسرائيل” ليست معجزة العالم المعاصر، لكنها الشكل النهائي لعالم يريد لنا أن نرفع الحواجز على طول الحدود معها، وفي نفس الوقت أن نبتسم أمام صورتها التي تتسرب نحونا بشكل سريع.

كم من المجازر سبقت “مجزرة الرشيد”، وهل لاحق الموت الغزيين فقط؟ كم من الرعب جال في شوارع بيروت ودمشق وبغداد؟ وكم من الوجوه الصفراء وقفت في مجلس الأمن لتحدد شرعية القتل.. نحن والمجازر تاريخ طويل وربما سيبقى ممتدا طالما استمر عزلنا في دوائر ضيقة.

مقالات ذات صلة