مازن بلال
نسي معظم السوريون دخول أزمتهم عامها الخامس عشر، فالإرهاق الاقتصادي أزاح الصور القديمة لحرب “مفاجئة”، أو حتى لتصورات بدت خلال عام 2011 وكأنها جاءت من مساحة أخرى غير محسوبة، بينما يبدو الواقع اليوم وكأنه أكثر من نتيجة لحرب طويلة، فهو يطرح صورة بلد لا يملك في عقل أي سوري أفق أو مجال لمعرفة تفاصيل يومه التالي.
في المشهد الأولي فإن الحرب خلفت حشدا من المحرومين أو ربما التائهين في البحث عن قوت يومهم، وفي عمق هذا المشهد هناك أجيال شابة تتابع حياتها وتنتظر فرصة خارج مساحة سورية، وهي تدرك أيضا أن العالم أصبح أكثر انغلاقا ليس بالنسبة لهم بل أيضا لكل العبور بين الشمال والجنوب، فالشباب يواجهون واقعا يضعهم في منطقة مأزومة ويفرض شروطا خاصة على حياتهم، الأمر الذي يجعل من أي تنمية اقتصادية محكومة بإيجاد نقطة بداية أكثر مرونة للأجيال الشابة.
عمليا فإن الحكومة تقوم بالتدابير الاقتصادية وفق “تسيير الحال”، وتقف عند حدود الحل السياسي الذي يمكن أن يعيد دور الإنتاج والموارد أيضا لخزينة الدولة، لكن هذا الأمر يغفل مسألتين أساسيتين:
الأولى أن الواقع الاقتصادي بذاته هو غاية لكل التحولات التي شهدناها على امتداد عقد ونصف، فالإفقار جزء من كسر سيادة الدول لفرض نظام إقليمي، والإفلاس الاقتصادي يرسم مشهدا للشرق الأوسط لا يحتاج للمساعدة إنما لتدخل المنظمات الدولية بشكل مستمر.
عمليات الإفقار منفصلة اليوم عن الحل السياسي، فهي مساحة خاصة في الأزمة تنتهي برسم سيادة الدول في المنطقة وفق سيناريوهات البنك الدولي بالدرجة الأولى، وقدرة الدول على تحمل التفاوت ما بين اقتصاداتها مقارنة بالخليج على سبيل المثال سيرسم مستقبل شرقي المتوسط بشكل عام.
المسألة الثانية هي في طبيعة الاستراتيجية الاقتصادية المستندة لموارد هي خارج سيطرة الدولة، والاعتراف أيضا بأن الحرب غيرت وجه سورية على المستوى الاقتصادي عموما، فحتى لو عادت كافة المناطق النفطية إلى كنف الدولة فإن التحدي الاقتصادي سيستمر.
الاستناد على الماضي الاقتصادي لسورية لم يعد ممكنا بسبب التحولات في المنطقة عموما، فالمسألة ليست هواجس أمنية إنما تغير في طبيعة الأسواق لمنطقة الشرق الأوسط ككل، والمثال الأكثر وضوحا هنا هو الانهيارات المصرفية في لبنان التي سببت أزمة في الاقتصاد السوري، وهذا الانهيار أنهى أحد أهم عوامل النظام المالي بين البلدين، وما ينطبق على الأسواق المالية يمكن سحبه باتجاه أسواق أخرى بدأت تتحول بشكل حاد نتيجة الحروب الداخلية أو حتى الخارجية.
التفكير الاقتصادي الجديد سينطلق من الاعتراف بأننا دولة عليها التعامل مع فقرها، وإلى أن يأتي اليوم الذي ينتهي به هذا الفقر، فإن الاقتصاد السوري سيبحث عن إنتاج مختلف للتعامل مع الأسواق الجديدة، ومهارات شابة قادرة على بناء مساحتها مع الأسواق الخارجية دون أن تضطر للسفر والخضوع لشروط إنتاج الدول الأخرى، وهذه المعادلة الصعبة تبدأ من التفكير بأن “السنوات العجاف” تحتاج لإبداع في الإنتاج مازال مفقودا في سورية.