هاشتاغ – رأي تيسير حسون
عندما يتعرض الإنسان لصدمة عنيفة، فإن جسده يحتفظ بها حتى لو حاول العقل نسيانها. نبضٌ متسارع عند سماع صوت يشبه صوت الانفجار القديم، ارتجاف غير مفهوم عند الوقوف في مكان يشبه ذلك الذي وقع فيه التعذيب، توتر لا إرادي عند رؤية زيّ أمني حتى لو كان في بلد آخر. كأن الجسد يقول: “أنا أتذكر حتى لو لم تشأ أنت أن تتذكر”.
لكن، ماذا لو كان الجسد الذي يحمل الصدمة هو جسد مجتمع بأكمله؟
المجتمع المصاب بالصدمة
المجتمع السوري اليوم يشبه مريضا غادر غرفة العمليات دون أن يكمل فترة النقاهة. ندوب الحرب لم تلتئم، وألم الفقد لم يجد طريقه إلى التهدئة، والخوف الذي التصق بالجلد لسنوات لم يتبدد بعد. كأننا جميعا نحمل في خلايانا ذاكرة العنف والقهر والتوجس، حتى لو لم نعد نفكر بها مباشرة.
لقد عايشنا قصفا متكررا، اعتقالات عشوائية، قهرا ممنهجا، وشعورا دائما بأن الحياة يمكن أن تنقلب في لحظة، بلا مقدمات. كل هذا لم ينتهِ بمجرد انتهاء الحرب أو سقوط النظام. بل ظل مختبئا في الجسد المجتمعي، يظهر في ردود أفعالنا، في طريقتنا في النظر إلى بعضنا البعض، في خوفنا العميق من المستقبل حتى لو لم نصرّح به.
القلق المتجذر.. ذاكرة لا تحتاج إلى تفكير
ذاكرة الصدمة ليست مجرد حكاية تُروى أو وثيقة تُوثّق. إنها حالة جسدية ونفسية تتكرر دون إذن. يخرج شخص من تحت التعذيب، لكنه يظل يقفز كلما سمع أحدا يطرق الباب بقوة. يخرج المجتمع من الحرب، لكنه يبقى في حالة استنفار، يتحسس الخطر حتى لو لم يكن موجودا.
اليوم، حتى بعد سقوط النظام، ما زالت الوشايات تقسم الناس، ما زال الخوف يحدد طريقة الكلام، وما زالت الانقسامات تسبق أي حديث عن المصالحة. هذه ليست مجرد أفكار، إنها أفعال جسدية، استجابات لا إرادية، قلق متجذر يجعل المجتمع يتصرف كما لو أن الخطر لا يزال قائما.
كيف تورّث الصدمة نفسها؟
لا تحتاج الصدمة الجماعية إلى كتاب يوثّقها كي تنتقل من جيل إلى جيل. يكفي أن يعيش الطفل في بيت يتنفس الخوف، يكفي أن يسمع حكايات عن الظلم والموت، يكفي أن يرى كيف يهرب الكبار من الحديث عن الماضي كأنه جرح لا يجب لمسه.
أبناء المهجّرين الذين لم يشهدوا القصف، يحملون في أجسادهم توتر آبائهم. أطفال المعتقلين الذين لم يسمعوا صراخ الزنازين، يشعرون أن العالم مكان غير آمن، دون أن يعرفوا السبب. اللاجئ الذي استقر في بلد جديد، لا يزال ينام وهو يشعر أن عليه الاستعداد للهرب في أي لحظة.
إنها ذاكرة لا تحتاج إلى أن تُقال، يكفي أن تُعاش.
ما العمل؟
لا تُمحى الصدمة بالتجاهل، ولا بتكرار الحديث عنها دون معالجة. المجتمع السوري يحتاج إلى أن يعترف بألمه، لا أن ينكره، أن يتحدث عنه لا أن يهرب منه، أن يبحث في داخله لا أن يدفنه خوفا من وجعه.
التعافي ليس شعارا، إنه عملية بطيئة تبدأ من التفاصيل الصغيرة: كيف نتعامل مع اختلافاتنا دون أن نشعر بالتهديد؟ كيف نعيد بناء الثقة دون أن نعيش أسرى للخوف؟ كيف نسمح لأنفسنا بأن نشعر بالأمان، ولو قليلاً؟
ذاكرة الجسد لا تُمحى بسهولة، لكن يمكن أن تُعاد برمجتها. المجتمع السوري لن يتعافى بمجرد أن يسقط النظام، بل عندما يتوقف عن التصرف كضحية دائمة، عندما يبدأ في إدراك أن الخوف لا يجب أن يكون قدرا.
الأمان ليس خيانةً للذاكرة
لكي تَبرأ سوريا، عليها أن تتعامل مع جسدها المُنهَك ليس كمتحف للآلام، بل كـ”مصنع ذاكرة” يُعيد إنتاج الحياة. ربما تكون المرآةُ مُعتمةً اليوم، لكنّها قد تصبح نافذةً لاستعادة الزمن المكسور، حين نتعلم أن نُصغي إلى نبض الجسد قبل أن يُغرقه الصمت.