هاشتاغ – حسن عيسى
لم تكن الأزمة الاقتصادية التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد مقتصرة على القطاع العام فحسب؛ بل امتدت لتشمل المشاريع المتوسطة، وكبرى الشركات الخاصة التي شكلت لعقود أحد محركات الاقتصاد السوري الأساسية.
فقد وجدت مؤسسات عدة نفسها في حالة من الجمود، إما بسبب القيود المالية والإدارية وإما نتيجة عدم استقرار السوق، وهذا أدى إلى موجات واسعة من تسريح الموظفين وتأخر الرواتب، وسط غياب أي آليات تنظيمية تحمي العمال من تداعيات الأزمة.
إيقاف الشركات وتسريح الموظفين
توقفت شركات خاصة عدة عن العمل توقفا مفاجئا، وهذا تسبب في فقدان آلاف السوريين وظائفهم في وقت يعاني فيه الاقتصاد تراجعا غير مسبوق.
نور العقلة، التي كانت تعمل محاسبة مبيعات رئيسية في شركة “سماتيل” للاتصالات، إحدى شركات رجل الأعمال المعروف محمد حمشو، تروي لـ “هاشتاغ” كيف توقف دفع الرواتب على الرغم من استمرار العمل مدة قصيرة بعد سقوط النظام.
تقول نور: “بعد المصالحة التي أجراها حمشو، تعهد بضخ مليار دولار في خزينة الدولة، لكن هذه الوعود لم تترجم إلى خطوات ملموسة، وتم تسريح الموظفين بعد شهر ونصف من العمل من دون رواتب”.
أما خالد، وهو عامل في أحد المصانع التابعة لحمشو أيضاً، فيوضح لـ “هاشتاغ” أن إدارة المصنع أخبرتهم بوجود انقطاع في الكهرباء، ثم تم تقليص ساعات العمل قبل أن يتم إيقاف الإنتاج تماماً، وهذا أدى إلى تعليق رواتبهم من دون أي توضيح رسمي لمصيرهم الوظيفي.
العمالة السورية في الشركات الأجنبية
لم تقتصر الأزمة على الشركات المحلية؛ بل امتدت إلى المؤسسات الأجنبية التي كانت تعتمد على العمالة السورية بوصفها مصدرا رئيسيا للموظفين برواتب منخفضة.
محمد، الذي كان يعمل في شركة تدريب وتأهيل خارج سوريا، واجه أيضاً مصيراً مشابهاً، ففي حديثه لـ “هاشتاغ” يقول محمد: “قبل سقوط النظام، كانت الشركة تعتمد على العمالة السورية برواتب منخفضة مقارنةً بموظفي الدول الأخرى، ولكن مع تراجع إيراداتها من السوق السورية بدأت تسريح الموظفين السوريين بأساليب غير مباشرة، مثل تأخر الرواتب وزيادة الضغوطات العملية”.
ويضيف: “ما حدث يظهر استغلال الشركات الخارجية العمالة السورية بوصفها يدا عاملة رخيصة، في حين أن سوريا تمتلك إمكانات استثمارية كبيرة لو تم استغلالها الاستغلال الصحيح”.
تعليق النشاطات التجارية وتراجع الطلب المحلي
أثّرت الأزمة في أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن الاستمرار بسبب تراجع الطلب المحلي وانخفاض ثقة المستثمرين.
آلاء دباس، التي كانت تشغل منصباً إدارياً في ورشة لصناعة الإكسسوارات وبيعها بالجملة، تروي لـ “هاشتاغ” التأثير السلبي للأحداث في قطاعها.
وتقول آلاء: “قبل سقوط النظام بأسبوعين، بدأنا نلاحظ اضطراباً في السوق، وهذا دفعنا إلى تقليل عدد العاملين مؤقتا، ولكن مع تطور الأوضاع توقفنا تماماً عن العمل، خاصةً وأن التجار باتوا يفضلون المنتجات الأجنبية التي أصبح بإمكانهم استيرادها بسهولة، من دون الحاجة إلى اللجوء للمنتج الوطني”.
وتضيف: “حاولنا استئناف العمل، لكن الرواتب تم تخفيضها إلى النصف، وهذا جعل الكثير من الموظفين يرفضون العودة رهن هذه الشروط غير العادلة”.
عقبات قانونية ومالية تهدد بقاء الشركات
لم تكن الشركات الكبرى بمنأى عن الأزمة؛ إذ إنها واجهت صعوبات مالية وقانونية أدت إلى تأخر دفع الرواتب وتعليق بعض العمليات التشغيلية.
أحد العاملين في شركة كبرى تابعة لرجل أعمال معروف، الذي رفض ذكر اسمه، أوضح أن الشركة لم تستغنِ عن موظفيها رسمياً، لكنها لم تتمكن من دفع الرواتب كاملةً بسبب تجميد أرصدتها في البنوك بأوامر من حاكم المصرف المركزي.
ويقول المصدر لـ “هاشتاغ”: “الشركات الخاصة في سوريا كانت قائمة على المحسوبيات والمافيات الاقتصادية، ولم يتغير هذا الواقع حتى بعد سقوط النظام، وهذا يجعل أي محاولة للإصلاح تصطدم بحواجز ضخمة داخل القطاع الخاص نفسه”.
مصدر آخر يعمل في إحدى الشركات التابعة لمجموعة “القاطرجي” كشف لـ “هاشتاغ” أن نحو 4000 عائلة باتت بلا مدخول بعد تسريح آلاف العمال في مختلف تلك الشركات، وتوقف راتب عدد منهم، فضلاً عن إفلاس تلك الشركات نتيجة تجميد أرصدتها وأعمالها من الحكومة السورية الجديدة.
التحولات في سوق العمل.. نهاية الدور الأبوي للدولة
وفق الدكتور منير عباس، خبير إدارة الموارد البشرية، فإنه لا توجد أرقام أو إحصائيات دقيقة لعدد المتضررين من توقف عملهم في القطاع الخاص، مبيناً أن القطاع الوظيفي في البلاد تأثر تأثرا ملموسا منذ سقوط النظام حتى اليوم.
ويرى الدكتور عباس في حديثه لـ “هاشتاغ” أن زيادة أعداد الباحثين عن عمل في القطاع الخاص فرضت ضغوطاً كبيرة على الشركات، التي لم تكن مستعدة لاستيعاب هذا الكم من اليد العاملة، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم.
ويشير الدكتور عباس إلى أن الدور الأبوي الذي أداه القطاع العام لسنوات كان سبباً رئيسياً في فشله؛ إذ استوعبت الدولة أعداداً كبيرة من الموظفين من دون مراعاة الكفاءة أو الإنتاجية، وهذا خلق ثقافة اتكالية عند الكثيرين.
في المقابل، يتميز القطاع الخاص بمعايير مختلفة أساسها المهارات والكفاءة، ولا يعتمد على تشغيل الأفراد وفق اعتبارات غير اقتصادية، وهذا جعل التكيف مع متطلباته تحدياً كبيراً أمام عدد من الموظفين القادمين من القطاع العام، بحسب كلامه.
القطاع الخاص.. فرص جديدة رغم العقبات
على الرغم من التحديات، شهدت الآونة الأخيرة ظهور شركات جديدة تعمل في قطاعات كانت محظورة سابقاً، مثل الأمن الخاص، والخدمات، والتصنيع، وتطوير البرمجيات، التي كانت تخضع لاحتكارات وقيود صارمة في عهد النظام السابق.
ويؤكد الدكتور عباس أن هذه التحولات تمثل فرصة كبيرة لتطوير القطاع الخاص، لكنها تتطلب إعادة تأهيل القوى العاملة لتتناسب مع متطلبات هذه الشركات الجديدة، خاصة أن عددا من المؤسسات الخاصة الكبرى في السابق كانت تحتكر السوق من دون منافسة حقيقية.
معضلة العقلية الوظيفية القديمة
إن من أكبر التحديات التي يواجهها القطاع الخاص اليوم هي العقلية الوظيفية للموظفين القادمين من القطاع العام؛ إذ ما زال بعضهم يظن أن الوظيفة يجب أن تكون مضمونة بصرف النظر عن الأداء، وهذا يجعلهم مترددين في خوض تجربة العمل في الشركات الخاصة، بحسب الدكتور عباس.
ويضيف أن كثيراً من هؤلاء الموظفين يرفضون العمل برواتب منخفضة على الرغم من حاجتهم إليه، في حين أن بعضهم كان يعمل سابقاً في القطاع الخاص إلى جانب وظائفهم الحكومية بسبب تدني الرواتب في المؤسسات العامة.
نحو شراكة بين القطاعين العام والخاص
يرى الدكتور عباس أن الحل الأمثل يكمن في تحقيق شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، بحيث يتم الحفاظ على المؤسسات الحكومية مع إدخال مبادئ الحوكمة والإدارة الحديثة المستوحاة من القطاع الخاص.
ويؤكد أن على القطاع العام أن يتحول إلى نموذج أكثر رشاقة يعتمد على توظيف النخب، مع توفير رواتب تتناسب مع كفاءاتهم، بدلاً من الاستمرار في النهج القديم الذي أدى إلى تضخم الجهاز الحكومي من دون تحقيق إنتاجية فعلية.
مستقبل الاقتصاد الوظيفي في سوريا
بحسب الدكتور عباس، فإن سوريا اليوم أمام تحول كبير في سوق العمل؛ إذ لم يعد التوظيف الحكومي الخيار الأول للباحثين عن عمل؛ بل أصبح الاقتصاد قائماً على الكفاءات والقدرة على المنافسة، وهذا يستدعي إعادة صياغة السياسات الاقتصادية لاستيعاب هذه التغيرات.
ويختم بقوله: “إصلاح القطاع العام يجب أن يكون متوازياً مع نمو القطاع الخاص، بحيث يتم خلق بيئة تنافسية تعزز من كفاءة القطاعين كليهما، وتضمن استدامة سوق العمل في سوريا”.