لم تنته الحرب في سورية بعد ، سمعنا مئات، بل آلاف القصص عن الموت والهجرة والدمار والجوع والتشرد، لكن ثمة قصص أخرى من الألم السوري .
هاشتاغ – شوكت أبوفخر
شهادات وقصص موجعة، لسوريين يعيشون فقد أبنائهم ، قصص تحمل معاني ومشاعر عميقة عن تأثير فقدان الأحبة على الأبناء، والعائلات التي فقدت فلذات أكباددها في الحرب .
قبل أن نسرد بعضاً من هذه القصص ، أتذكر قول شيخ أنهكته السنون :” هل نفكر بالوطن عندما ننجب أبنائنا ..؟”
سؤال لم يشغل ذهني من قبل ، كنت أفكر ولا زلت، أن الأولاد يأتون إلى هذه الحياة لكي يعيشوا ويحلموا، ويفرحوا ويحققوا ما يصبون إليه، لا أن يصبحوا أرقاماً أو صوراً للذكرى ..
تحضير استباقي للموت
أمام قصص ستروى، ستغدو الحياة رحلة قصيرة، أو تحضير استباقي للموت .
حازت قصص الكثير من السوريين، الفارين من الحرب إلى أوروبا على اهتمام إعلامي، لكن ماذا عن الذين أنهكتهم الحرب، أو الذين لم يفروا، ولن يفروا، لأنهم لا يرغبون في أن يصبحوا لاجئين، أو لأنهم يفضلون البقاء تحت الخطر، أو الفقر حتى آخر رمق، أو آثروا البقاء قرب قبور أحبائهم، ويعيشون على الذكرى ..
مديرة لمدرسة تحمل اسم وحيدها
خلفت الحرب وراءها مجموعة من القلوب الممزقة، فأي جلَد تملكه سيدة ستينية (دعد فلوح) وهي تتحدث عن وحيدها همام الذي استشهد في تفجير غادر؟.
تقول: “منذ الأيام الأولى لاستشهاد همام “10/5/2012 ” كان همي أن أخلّد اسمه، حاولت ذلك كمديرة لمدرسة لم تكن مسماة، عبر مديرية تربية ريف دمشق، استجابوا لطلبي، وكم كانت فرحتي كبيرة بهذه التسمية لأنها خلّدت اسمه.”
أربع سنوات مرت على الأم، والمديرة بآن معاً. همام يسكن القلب ، وصورته تزيّن المدرسة، وبابها يحمل اسمه .
تضيف : “أجلس على كرسي، واسم ابني فوق رأسي، أفرح وأحزن في الوقت نفسه.”
خلف كل كلمة تقولها هذه الأم، المتشحة إلى اليوم بثياب الحداد، ثمّة حزنٌ دفين، وحشرجة صوت مخنوق، تروي قليلا عن ابنها ” ولد همام في دمشق 3/3 1991، درس المرحلة الابتدائية في مدرسة المعونة، والمرحلتين الإعدادية والثانوية في جرمانا، حصل على منحة من وزارة التعليم العالي للدراسة في الجامعة الدولية الخاصة للعلوم والتكنولوجيا باختصاص نظم معلومات إدارية، كان متفوقاً في دراسته، وحصل على المرتبة الأولى في سنوات دراسته، واستشهد وهو في نهاية سنته الدراسية الثالثة .”
وتعتبر السيدة فلوح أن ما يواسيها بعد هذه السنوات أن اسم ابنها وذكره بات مؤبداً، وسوف تتوارثه الأجيال .
تتابع “لهذه التسمية ناحيتان؛ إيجابية، كونها خلّدت اسمه، و سلبية كوني مديرة للمدرسة. كنت أتصبح في كل يوم بصورة ابني، فأفرح وأحزن بالوقت نفسه .”
أعوام مرت على هذا المنوال قبل ان تتقاعد السيدة فلوح من عملها، ليبقى الابن وصوره وذكرياته وقد ملؤوا البيت: “همام ابننا الوحيد، لم يذهب للعسكرية، كان مفعماً بالحيوية والنشاط والأمل ، كان لفقده عظيم الأثر في نفوس العائلة التي تغيرت حياتها كلياً.”
درسوا في مدرسة ابيهم
تقول صديقة سورية مقيمة في الخارج “إن الأوضاع اليوم في سورية باتت جيدة”، أحاول جاهداً أن أشرح لها بأننا لسنا بخير، لكنها تصر على أن “شوية ” مشكلات ستزول، ليتها تقرأ تضاريس الوجوه، وترى الوهاد والخدود العميقة التي انحفرت في الوجوه لكنها لم ولن تفعل، هي تكتفي بما يقال عن بعد، لكنني سأحدثها عن قصة شابين لم يشبعا من رؤية والدهما في الحياة، بل عاشا معه، اسماً فقط يزين مدخل مدرستهم ..
طارق وعدي أبوفخر، باتا اليوم شابين، لكن حين استشهاد والدهم رمزي كانا صغيرين، درسا المرحلة الإعدادية والثانوية، في مدرسة القرية التي حملت اسم أبيهما لاحقاً .
ليس عاديا أن “يتصبّح” الأولاد كل يوم باسم أبيهم على باب المدرسة .
سأقول لصديقتي أننا فيما مضى كنا نذهب إلى مدارس تحمل أسماء شهداء لم نكن نعرفهم، تفصلنا عن تاريخ استشهادهم عشرات السنين، لكننا اليوم نمشي في شوارع تحمل أسماء أناس نعرفهم، نحسهم بيننا، نجلس في حدائق تحمل أسماء أصدقاء ومعارف، ويذهب أولادنا إلى مدارس تحمل أسماء أقاربهم ..
رمزي أبوفخر أفنى عمره كي يرى بيته في قريته مكتملاً ، لكن الموت كان سباقاً إليه، استشهد في حماه، المدينة التي لم يزرها إلا مرة واحدة، وأخيرة، استشهد بتاريخ 25 /11/ 2011..
تقول الزوجة جهينة شرف الدين “لقد ترك لنا سمعة عطرة وطيبة، لم يكن أمراً سهلاً أن يذهب الأولاد إلى مدرسة تحمل اسم أبيهم، لكنهم كانوا صغاراً نسبياً، مرّ الأمر، سمنضي على الدرب لنحمل اسمه، ونعمل بما يليق به من خلال تربية الأولاد وتعليمهم .”
اسم في الحارة
ثمة المزيد من قصص مشابهة سأخبر صديقتي عنها، سأحدثها أيضاً عن شاب لم يرَ من حياة الشباب شيئاً، كان تلميذاً في مدراس الحارة، وبات اليوم اسماً على أحد أبوابها ..
الشهيد يزن دبوس تولد 1992، شاب أعزب، الأوسط بين أخوته الشباب الثلاثة، استشهد في درعا حيث كان يؤدي الخدمة الإلزامية.
يقول عمه ” تم نقله إلى درعا، وغداة وصولهم إلى هناك هاجمهم مسلحون، فاستشهد بعد أن دافع عن زملائه ببسالة ونفذت ذخيرته .”
يزن التحق بالخدمة العسكرية وهو ابن ثمانية عشر ربيعاً، النجار الذي عمل لكي يساعد أهله وأسرته الكادحة كانت لديه أحلام كبيرة، لكن القدر كان أسرع، ولم يتسع له العمر لكي يكوّن أسرة ويرى أولاده .
يضيف العم “خسرنا شاباً في مقتبل العمر، يعز علينا ذلك، لكن ما يواسينا أنه استشهد في سبيل الدفاع عن الوطن .”
سُميت مدرسة باسم يزن في الحارة التي ألفها جيداً، فبيته على مقربة منها.
يقول العم :”هذا فخر لنا، اسمه بقي في الحارة نفسها، في المدرسة، نحن على مقربة منها، لا تفصلنا عن اسمه سوى أمتار، في الذهاب والإياب نقرأ اسمه ونترحم على روحه .”
يلعب في حديقة أبيه
الألم والحزن ليس في المدارس، بل في الساحات والشوارع التي حملت الأسماء .
هل أخبر صديقتي عن ذاك الطفل الذي لم يشبع من رؤية أبيه، كان صغيراً جداً عندما استشهد والده، وعندما كبر قليلاً بات يقرأ اسمه على باب حديقة الحي، يصبّح عليه كل يوم، لكنه لا يجيب، يرمق صورته المعلقة على باب الحديقة بنظرة ثابتة وحزينة .
الشهيد فراس حيدر، واحد من ستة شباب للعائلة، كان أنهى خدمته الإلزامية قبل سنوات، لكنه استشهد في عقربا على مقربة من جرمانا جنوب شرق دمشق، وعمره 37 عاماً، وكان لديه ولد وحيد، بات اليوم بعمر عشر سنوات .
يقول شقيقه نورس عنه :” كان غيوراً، مقداماً، لم يتحمل أن يهجم المسلحون على جرمانا بينما يجلس في البيت، لذلك آثر مع مجموعة من الشباب الدفاع عن البلدة، واستشهد.”
ابن الشهيد يعيش اليوم في بيت عمه، على مقربة من الحديقة التي حملت اسم أبيه، يتردد على الحديقة، يلعب كغيره من الأطفال في الأراجيح، قد يكون بعمرٍ لم يشعر بعد بفقدان السند.
يضيف نورس “غالباً ما أمر من هنا متعمداً، كي أقرأ اسم أخي على المدخل، تسمية الحديقة باسم شقيقي يبقي ذكره مؤبداً، وتتوارثه الأجيال فيما بعد، هذا أفضل نسبياً من أن يكون منسياً.”
يتنهد الاخ وهو يتحدث عن شقيقه، يحاول أن يخفي ارتباكه ومشاعره ويواسي نفسه، لكن عيونه ونبرته المتهدجة تفضح مشاعره، حيث تلمع في عينيه دمعةٌ مكبوتة .
أمثلة من الآف القصص
الحرب على سورية لم تضرم النيران في الأحياء والمنازل وفي الحقول والبساتين، بل في القلوب. اليوم، ورغم سكوت أصوات المعارك، لكنها في نفوس الكثيرين لم تنته أبداً، بعدما سلبتهم أغلى ما عندهم.
لا ندّعي أن هذه القصص تقدّم رؤية شاملة أو كاملة عن آلاف القصص المشابهة، بل نروي قصصاً تلامس وجعاً يجثم على الصدور .
كثيرون تحدثوا ، بكوا ، وأنهوا الحديث بعبارة “الله يفرج”، وهي العبارة التي نستخدمها عندما لا تسعفنا الكلمات بالعثور على أجوبة شافية.
نعم هدأت الحرب نسبيا في مناطق عديدة، لكن ما يمر به كثيرون، بمثابة عذاب لا يطاق، الحياة حلوة، وخلقت لكي تعاش ويتم التنعم بها لا من أجل أن نموت قبل الأوان، قد لا يعجب هذا الكلام صديقتي، ولهذا السبب سردت تلك القصص، عن تلك المعلمة الستينية التي ربت وحيدها فلذة كبدها “كل شبر بنذر” كما يقال، كان عريسا بحق، عينان واسعتان ووجه باسم، ذهب ذات يوم إلى الجامعة ولم يعد، تفجير إرهابي أودى بحياته.
لو استطعت لنقلت لصديقتي حشرجة صوت أمه المعلمة وحسرتها، ولوكان الوقت يسمح لرويت لها قصة ذلك الطفل الصغير الذي يلعب، في حديقة تحمل اسم أبيه، وما يشعر به الشباب اليوم، لكن ليت كل ما نفكر به نستطيع ترجمته.
لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام